ثم بين دلائل ربوبيته ، فقال عز من قائل : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } ، يعني : السواري ، واحدها عمود ، مثل : أديم وأدم ، وعمد أيضا جمعه ، مثل : رسول ورسل . ومعناه نفي العمد أصلا ، وهو الأصح ، يعني : ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها . قال إياس بن معاوية : السماء مقببة على الأرض مثل القبة . وقيل : ترونها راجعة إلى العمد ، معناه : لها عمد ولكن لا ترونها . وزعم : أن عمدها جبل قاف ، وهو محيط بالدنيا ، والسماء عليه مثل القبة . { ثم استوى على العرش } ، علا عليه ، { وسخر الشمس والقمر } ، ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران ، { كل يجري } ، أي : يجريان على ما يريد الله عز وجل ، " لأجل مسمى " ، أي : إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا . وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمى درجاتها ومنازلها ينتهيان إليها لا يجاوزانها ، { يدبر الأمر } ، يقضيه وحده ، { يفصل الآيات } ، يبين الدلالات ، { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } ، لكي توقنوا بوعده وتصدقوه .
{ 2 - 4 } { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير ، والعظمة والسلطان الدال على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة ، { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي : ليس لها عمد من تحتها ، فإنه لو كان لها عمد ، لرأيتموها { ثُمَّ } بعد ما خلق السماوات والأرض { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات ، استواء يليق بجلاله ويناسب كماله .
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم ، { كُلِّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي } بتدبير العزيز العليم ، { لأَجَلٍ مُسَمًّى } بسير منتظم ، لا يفتران ولا ينيان ، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم ، ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار ، فعند ذلك يطوي الله السماوات ويبدلها ، ويغير الأرض ويبدلها . فتكور الشمس والقمر ، ويجمع بينهما فيلقيان في النار ، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة ؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين .
وقوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ } هذا جمع بين الخلق والأمر ، أي : قد استوى الله العظيم على سرير الملك ، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي ، فيخلق ويرزق ، ويغني ويفقر ، ويرفع أقواما ويضع آخرين ، ويعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويقيل العثرات ، ويفرج الكربات ، وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه ، وجرى بها قلمه ، ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره .
وينزل الكتب الإلهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي ، ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها ، { لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات القرآنية ، { بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها ، من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية ، خصوصا في العقائد الكبار ، كالبعث والنشور والإخراج من القبور .
وأيضا فقد علم أن الله تعالى حكيم لا يخلق الخلق سدى ، ولا يتركهم عبثا ، فكما أنه أرسل رسله وأنزل كتبه لأمر العباد ونهيهم ، فلا بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه ، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء ، ويجازي المسيئين بإساءتهم .
ثم أقام - سبحانه - الأدلة المتنوعة ، عن طريق المشاهدة - على كمال قدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له فقال - تعالى - { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .
والعمد : جمع عماد ، وهو ما تقام عليه القبة أو البيت .
وجملة { ترونها } في محل نصب حال من السموات .
أى : الله - سبحانه - هو الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفى ضخامتها ، بغير مستند يسندها ، وبغير أعمدة تعتمد عليها ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح .
والمراد بقوله { رفع } أى خلقها مرتفعة منذ البداية ، وليس المراد أنه - سبحانه - رفعها بعد أن كانت منخفضة .
ولا شك أن خلق السموات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقاً قادراً حكيماً ، هو المستحق للعبادة والطاعة .
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، وهو دليل آخر على قدرة الله - تعالى - عن طريق الغائب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك بعد أن أقام الأدلة على ذلك عن طريق الحاضر المشاهد .
وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم - كما يقول الراغب - .
وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية ، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن الكريم .
والمعنى : ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين .
قال الإِمام مالك - رحمه الله - : " الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فقال : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } . والتسخير : التذليل والخضوع .
أى : أن من مظاهر فضله أنه - سبحانه - سخر ذلك وأخضع لقدتره الشمس والقمر ، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة ، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه . بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها - سبحانه - لوقوفهما وأفولهما .
قال - تعالى - { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } وتدبير الأمرك تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها .
والآيات : جمع آية . والمراد بها هنا : ما يشمل الآيات القرآنية ، والبراهين الكونية الداغلة على وحدانيته وقدرته - سبحانه - .
أى : أنه - سبحانه - يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه - سبحانه - ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة ، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة ، وبوجوه متنوعة .
وقد فعل - سبحانه - ما فعل - من رفعه السماء بلا عمد ، ومن تسخيره للشمس والقمر ، ومن تدبيره لأمور خلقه ، ومن تفصيله للآيات لعكلم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق ، توقنون بلقائه ، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة ، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم ، لكى يحاسبكم على أعمالكم .
وقال - سبحانه - { يدبر } و { يفصل } بصيغة المضارع . وقال قبل ذلك { رَفَعَ السماوات } و { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } بصيغة الماضى . لأن التدبير للأمور ، والتفصيل للآيات ، يتجددان بتجدد تعلق قدرته - سبحانه - بالمقدورات .
وأما رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، فهى أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.