قوله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم } دعوناهم ، . قال مجاهد ، وقال ابن عباس : بينا لهم سبيل الهدى . وقيل : دللناهم على الخير والشر ، كقوله : { هديناه السبيل }( الإنسان-3 ) ، { فاستحبوا العمى على الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان ، { فأخذتهم صاعقة العذاب } أي : مهلكة العذاب ، { الهون } أي : ذي الهوان ، أي : الهوان ، وهو الذي يهينهم ويخزيهم . { بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فبيّنا لهم سبيل الحقّ وطريق الرشد ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ : أي بيّنا لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم سبيل الخير والشرّ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال : أعلمناهم الهدى والضلالة ، ونهيناهم أن يتّبعوا الضلالة ، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ثَمُودُ فقرأته عامة القرّاء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع ثمود ، وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك . وأما الأعمش فإنه ذكر عنه أنه كان يُجزي ذلك في القرآن كله إلا في قوله : وآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في هذا الموضع بغير ألف ، وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف ، أو اسم جيل معروف . وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا . وأما ثمود بغير إجراء ، وذلك وإن كان له في العربية وجه معروف ، فإن أفصح منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها ، وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم ألا ترى أنه لا يقال : وأما هدينا فثمود ، كما يقال : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء أما الرفع فلما وصفت ، وأما ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة .
وقوله : فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى يقول : فاختاروا العمى على البيان الذي بيّنت لهم ، والهدى الذي عرفتهم ، بأخذهم طريق الضلال على الهدى ، يعني على البيان الذي بيّنه لهم ، من توحيد الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : اختاروا الضلالة والعمى على الهدى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فاسْتَحَبّوا العَمَى يقول : بيّنا لهم ، فاستحبوا العمى على الهدى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : استحبوا الضلالة على الهدى ، وقرأ : وَكذَلكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ . . . إلى آخر الاَية ، قال : فزين لثمود عملها القبيح ، وقرأ : أَفَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَنا فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ . . . إلى آخر الاَية .
وقوله : فَأخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِمَا كانُوا يكْسِبُونَ يقول : فأهلكتهم من العذاب المذلّ المهين لهم مُهلكة أذلتهم وأخزتهم والهون : هو الهوان ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ عَذَابِ الهُونِ قال : الهوان .
وقوله : بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ من الاَثام بكفرهم بالله قبل ذلك ، وخلافهم إياه ، وتكذيبهم رسله .
بقية التفصيل الذي في قوله : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا } [ فصلت : 15 ] .
ولما كان حال الأمتين واحداً في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً } [ فصلت : 14 ] كان الإِخبار عن ثمود بأن الله هَداهم مقتضياً أنه هدَى عاداً مثل ما هدى ثمود وأن عاداً استحبوا العَمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود . والمعنى : وأما ثمودُ فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض .
فالمراد بالهداية هنا : الإرشاد التكليفي ، وهي غير ما في قوله : { ومن يهد اللَّه فما له من مضل } [ الزمر : 37 ] فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله : { وَمَن يضْلل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 33 ] .
واستحبوا العمى معناه : أحبّوا ، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله : { فاستكْبُروا في الأرضضِ بغيرِ الحَقِّ } [ فصلت : 15 ] ، أي كان العمى محبوباً لهم . والعمى : هنا مستعار للضلال في الرأي ، أي اختاروا الضلال بكسبهم . وضُمن ( استحبوا ) معنى : فَضَّلوا ، وَهَيَّأ لهذا التضمين اقترانُه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي ( استحبوا ) بحرف { على } ، أي رجحوا باختيارهم . وتعليق { عَلَى الهدى } بفعل ( استحبوا ) لتضمينه معنى : فضّلوا وآثروا .
وفُرع عليه { فَأَخَذَتْهُم صاعقة العَذَابِ الهُونِ } ، وكان العقاب مناسباً للجُرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى ، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى ، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تُعمِي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] .
والأخذ : مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمُهلَك يُزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد .
والصاعقة : الصيْحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه . وإضافة { صاعقة } إلى { العَذَابِ } للدلالة على أنها صاعقة تُعَرّف بطريق الإضافة إذ لا يُعرِّفَ بها إلا ما تضاف إليه ، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق ، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود ، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه .
و { العذاب } هو : الإِهلاك بالصعق ، ووصف ب { الهُونِ } كما وصف العذاب بالخزي في قوله : { لنُذيقَهُم عَذَابَ الْخِزي } [ فصلت : 16 ] ، أي العذاب الذي هو سبب الهُون . و { الهُون } : الهوان وهو الذل ، ووجه كونه هَواناً أنه إهلاك فيه مذلة إذ استُؤْصلوا عن بكرة أبيهم وتُركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد . أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته .
ويعلم من قوله في شأن عاد { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى } [ فصلت : 16 ] أن لثمود عذاباً في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم . وهذا مُحسِّن الاكتفاء ، وهو محسِّن يرجع إلى الإيجاز .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.