قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } ، وذلك أن المشركين سألوا وقالوا : أي شيء الذي حرم الله تعالى ؟ فقال عز وجل : { قل تعالوا أتل } أقرأ { ما حرم ربكم عليكم } حقاً ويقيناً ، لا ظناً وكذباً كما تزعمون . فإن قيل : ما معنا قوله : { حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك ؟ قيل : موضع ( أن ) رفع ، معناه : هو أن لا تشركوا ، وقيل : محله نصب ، واختلفوا في وجه انتصابه ، قيل : معناه حرم عليكم أن تشركوا ، و( لا ) صلة كقوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } [ الأعراف :12 ] ، أي : منعك أن تسجد . وقيل : تم الكلام عند قوله { حرم ربكم } ثم قال : { عليكم أن لا تشركوا به شيئاً } على وجه الإغراء . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ، أي : أتل عليكم تحريم الشرك ، وجائز أن يكون على معنى : أوصيكم ألا تشركوا .
قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، فقر .
قوله تعالى : { نحن نرزقكم وإياهم } ، أي : لا تئدوا بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم .
قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، ما ظهر يعني : العلانية ، وما بطن ، يعني السر ، وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر . وقال الضحاك : ما ظهر الخمر ، وما بطن الزنا .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، حرم الله تعالى قتل المؤمن ، والمعاهد ، إلا بالحق ، إلا بما يبيح قتله من ردة ، أو قصاص ، أو زنا يوجب الرجم . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
قوله تعالى : { ذلكم } الذي ذكرت .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ مّنْ إمْلاَقٍ نّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، الزاعمين أن الله حرّم عليهم ما هم محرّموه من حروثهم وأنعامهم ، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك : تعالوا أيها القوم أقرأ عليكم ما حرّم ربكم حقّا يقينا ، لا الباطل ، تخرّصا كخرصكم على الله الكذب والفرية ظنّا ، ولكن وحيا من الله أوحاه إليّ ، وتنزيلاً أنزله عليّ ، ألا تشركوا بالله شيئا من خلقه ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام ولا تعبدوا شيئا سواه . وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول : وأوصى بالوالدين إحسانا . وحذف «أوصى » وأمر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب .
وأما «أن » في قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا فرفع ، لأن معنى الكلام : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، هو أن لا تشركوا به شيئا . وإذا كان ذلك معناه ، كان في قوله : تُشْركُوا وجهان : الجزم بالنهي ، وتوجيهه «لا » إلى معنى النهي . والنصب على توجيه الكلام إلى الخبر ، ونصب «تشركوا » ب«ألاّ » كما يقال : أمرتك أن لا تقوم . وإن شئت جعلت «أن » في موضع نصب ردّا على «ما » وبيانا عنها ، ويكون في قوله : تُشْرِكُوا أيضا من وجهي الإعراب نحو ما كان فيه منه ، و«أن » في موضع رفع ، ويكون تأويل الكلام حينئذٍ : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، أتْلُ أن لا تشركوا به شيئا .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون قوله تُشْرِكُوا نصبا ب«أن لا » ، أم كيف يجوز توجيه قوله : «أن لا تشركوا به » ، على معنى الخبر ، وقد عطف عليه بقوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إملاقٍ وما بعد ذلك من جزم النهي ؟ قيل : جاز ذلك كما قال تعالى ذكره : قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ فجعل «أن أكون » خبرا و«أنْ » اسما ، ثم عطف عليه ، وكما قال الشاعر :
حَجّ وأوْصَى بسُلَيْمَى الأعْبُدَا ***أنْ لا تَرَى وَلا تُكَلّمْ أحَدَا
***وَلا يَزَلْ شَرابُها مُبَرّدَا ***
فجعل قوله «أن لا ترى » خبرا ، ثم عطف بالنهي ، فقال : «ولا تكلم » ، «ولا يزل » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيّاهُمْ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم ، فإن الله هو رازقكم وإياهم ، ليس عليكم رزقهم ، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجز عن أرزاقهم وأقواتهم . والإملاق : مصدر من قول القائل : أملقت من الزاد ، فأنا أُمْلِقُ إملاقا ، وذلك إذا فني زاده وذهب ماله وأفلس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صاللح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكمْ مِنْ إمْلاقٍ الإملاق : الفقر ، قتلوا أولادهم خشية الفقر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ أي خشية الفاقة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ قال : الإملاق : الفقر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : مِنْ إمْلاقٍ قال : شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العيلة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، في قوله : مِنْ إمْلاقٍ يعني : من خشية فقر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ .
يقول تعالى ذكره : ولا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرّمة عليكم التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها ، والباطن منها الذي تأتونه سرّا في خفاء لا تجاهرون به ، فإن كلّ ذلك حرام . وقد قيل : إنما قيل لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن ، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنا بعضا . وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع ، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كلّ فاحشة وباطنها ، ولا خبر يقطع العذر بأنه عُنى به بعضٌ دون جميع ، وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن إلا بحجة يجب التسليم لها .
ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال الاَية خاصّ المعنى :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أما ما ظهر منها : فزواني الحوانيت ، وأما ما بطن : فما خفي .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنا ، ويرون ذلك حلالاً ما كان سرّا ، فَحرّم الله السرّ منه والعلانية ما ظَهَرَ مِنْها يعني : العلانية وَما بَطَنَ يعني : السرّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السرّ ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزنا في السرّ والعلانية .
وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ : سرّها وعلانيتها .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، نحوه .
وقال آخرون : ماظهر نكاح الأمهات وحلائل الاَباء ، وما بطن : الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : ما ظهر : جمع بين الأختين ، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده وما بطن : الزنا . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثني إسحاق بن زياد العطار البصري ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق البلخي ، قال : حدثنا تميم بن شاكر الباهلي ، عن عيسى بن أبي حفصة ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تَقْرَبوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : ما ظهر الخمر ، وما بطن : الزنا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ .
يقول تعالى ذكره : قُلْ تَعَالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشرِكُوا بِهِ شَيئْا وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حرّم الله إلاّ بالحَقّ يعني بالنفس التي حرّم الله قتلها : نفس مؤمن أو معاهَد . وقوله : إلا بالحَقّ يعني : بما أباح قتلها به من أن تقتل نفسا فتقتل قودا بها ، أو تزني وهي محصنة فترجم ، أو ترتدّ عن دينها الحقّ فتُقتل فذلك الحقّ الذي أباح الله جلّ ثناؤه قتل النفس التي حرّم على المؤمنين قتلها به . ذَلِكُمْ يعني : هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه ، هي الأمور التي أوصانا والكافرين بها أن نعمل جميعا به . لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول : وصاكم بذلك لعلكم تعقلون ما وصاكم به ربكم .
{ قل تعالوا } أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم . { أتل } أقرأ . { ما حرم ربكم } منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول { أتل } لأنه بمعنى أقل ، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم { عليكم } متعلق ب{ حرم } أو { أتل } . { ألا تشركوا به } أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب{ ما حرم } ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء ، أو البدل من { ما } أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام ، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا . { شيئا } يحتمل المصدر والمفعول . { وبالوالدين إحسانا } أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما . { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } من أجل فقر ومن خشية . كقوله : { خشية إملاق } { نحن نرزقكم وإياهم } منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه . { ولا تقربوا الفواحش } كبائر الذنوب أو الزنا . { ما ظهر منها وما بطن } بدل منه وهو مثل قوله { ظاهر الإثم وباطنه } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن . { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر مفصلا . { وصاكم به } بحفظه . { لعلكم تعقلون } ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد .
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و { تعالوا } معناه أقبلوا ، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمراً من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو{[5149]} ، وتعالى هو مطاوع عالى ، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل . و { أتل } معناه اسرد وأ نص من التلاوة التي يصح هي إتباع بعض الحروف بعضا ، و { ما } نصب بقوله { أتل } وهي بمعنى الذي ، وقال الزجّاج أن يكون قوله { أتل } معلقاً عن العمل و { ما } نصب ب { حرم } .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق و { أن } في قوله { أن لا تشركوا } يصح أن تكون في موضع رفع الابتداءو التقدير : الأمر أن ، أو : ذلك أن ، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من { ما } قاله مكي وغيره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والمعنى يبطله فتأمله ، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله التقدير : إرادة أن لا تشركوا به شيئاً ، إلا أن هذا التأويل يخرج{ ألا تشركوا } من المتلو ويجعله سبباً لتلاوة المحرمات . و{ تشركوا } يصح أن يكون منصوباً ب { أن } ، ويتوجه أن يكون مجزوماً بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود ، و { أن } قد توصل بما نصبته ، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي ، و { شيئاً } عام يراد به كل معبود من دون الله ، و { إحساناً } نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس ، وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة { بسم الله الرحمن الرحمن قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآية ، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة ، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى ، وإن اعترض من قال إن { تشركوا } منصوب ب { أن } بعطف المجزومات عليه فلذلك موجود في كلام العرب ، وأنشد الطبري حجة لذلك : [ الرجز ] .
حج وأوصى بسليمى الأعْبُدا . . . أن لا ترى ولا تكلمْ أحدا
ولا يزلْ شرابُها مبرَّدا{[5150]} . . .
وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم } الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات ، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين ، و «الإملاق » الفقر وعدم المال ، قاله ابن عباس وغيره ، يقال أملق الرجل إذا افتقر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب ، وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل ، والملق الحجارة السود واحدته ملقة ، وذكر منذر بن سعيد{[5151]} أن الإملاق الإنفاق ، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن علياً قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت ، وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق ، وحكى أيضاً النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم .
وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و «ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع ، وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا } الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة ، ومعنى الآية { إلا بالحق } الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه ، و { ذلكم } إشارة إلى هذه المحرمات ، و «الوصية » الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أجدَّكَ لم تسمعْ وَصَاةَ محمَّدٍ . . . نبيِّ الإلهِ حين أوصى وَأَشْهَدَا{[5152]}
وقوله { لعلكم } ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}، يقول: تعالوا حتى أقرأ ما حرم عليكم، {ألا تشركوا به شيئا} من خلقه، {وبالوالدين إحسانا}، يعني برا بهما، {ولا تقتلوا أولادكم}، يعني دفن البنات وهن أحياء، {من إملاق}، يعني خشية الفقر، {نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش}، يعني الزنا، {ما ظهر منها}، يعني السفاح علانية، {وما بطن}، يعني الزنا في السر تتخذ الخليل، فيأتيها في السر، {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} قتلها {إلا بالحق}، يعني بالقصاص والثيب الزاني بالرجم، والمرتد عن الإسلام، فهذا الحق، {ذلكم وصاكم به لعلكم}، يعني لكي {تعقلون} أنه لم يحرم إلا ما ذكر في هذه الآيات الثلاث، ولم يحرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الزاعمين أن الله حرّم عليهم ما هم محرّموه من حروثهم وأنعامهم، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك: تعالوا أيها القوم أقرأ عليكم ما حرّم ربكم حقّا يقينا، لا الباطل، تخرّصا كخرصكم على الله الكذب والفرية ظنّا، ولكن وحيا من الله أوحاه إليّ، وتنزيلاً أنزله عليّ، ألا تشركوا بالله شيئا من خلقه ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام ولا تعبدوا شيئا سواه. "وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا "يقول: وأوصى بالوالدين إحسانا. وحذف «أوصى» وأمر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب...
"وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيّاهُمْ":... ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجز عن أرزاقهم وأقواتهم. والإملاق: مصدر من قول القائل: أملقت من الزاد، فأنا أُمْلِقُ إملاقا، وذلك إذا فني زاده وذهب ماله وأفلس...
"وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ" يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرّمة عليكم التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطن منها الذي تأتونه سرّا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كلّ ذلك حرام. وقد قيل: إنما قيل لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنا بعضا، وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كلّ فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذر بأنه عُنى به بعضٌ دون جميع، وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن إلا بحجة يجب التسليم لها...
"وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول تعالى ذكره: "قُلْ تَعَالُوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أنْ لا تُشرِكُوا بِهِ شَيئْا... وَلا تَقْتُلُوا النّفْسَ التي حرّم الله إلاّ بالحَقّ" يعني بالنفس التي حرّم الله قتلها: نفس مؤمن أو معاهَد. وقوله: إلا بالحَقّ يعني: بما أباح قتلها به من أن تقتل نفسا فتقتل قودا بها، أو تزني وهي محصنة فترجم، أو ترتدّ عن دينها الحقّ فتُقتل، فذلك الحقّ الذي أباح الله جلّ ثناؤه قتل النفس التي حرّم على المؤمنين قتلها به. "ذَلِكُمْ" يعني: هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه، هي الأمور التي أوصانا والكافرين بها أن نعمل جميعا به. "لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول: وصاكم بذلك لعلكم تعقلون ما وصاكم به ربكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشِرْك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شيءٌ من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شِرك جَلِيٍّ وشِرْك خَفِيِّ؛ فالجَليُّ عبادةُ الأصنامِ، والخفيُّ ملاحظةُ الأنامِ، بعين استحقاق الإعظام. والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق. ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النَّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق. ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات. ثم الصدق في القول والعدل في الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فَمَنْ قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظي بعظائم منزلته...
والنوع الخامس: قوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}. واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين: إحداهما: أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم، كقوله: {وملائكته وجبريل وميكال} والثانية: أنه تعالى أراد أن يستثني منه، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...لما كان العقل مناط التكليف قال تعالى: {لعلكم تعقلون} أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره، فليس التحريم لأحد غيره فقال: {قل تعالوا} أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال... {أتل} أي أقرأ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك، و كان المحرم أهم، قدمه فقال: {ما حرم ربكم} أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم {عليكم} فسخطه منكم، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها، فقال: {ألا تشركوا به شيئاً} الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، فإن التقية بالحمية قبل الدواء، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم: {وبالوالدين} أي افعلوا بهما {إحساناً}.
ولما أوصى بالسبب في الوجود، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال: {ولا تقتلوا أولادكم} ولما كان النهي عاماً، وكان ربما وجب على الولد قتل، خص لبيان الجهة فقال: {من إملاق} أي من أجل فقر حاصل بكم، ثم علل ذلك، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال: {نحن نرزقكم} بالخطاب، أي أيها الفقراء، ثم عطف عليه الأبناء فقال: {وإياهم} وظاهر قوله في الإسراء
{خشية إملاق} [الإسراء: 31] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر، فبدأ بالأولاد فقال:"نحن نرزقهم" ثم عطف الآباء فقال "وإياكم "-نبه عليه أبو حيان.
ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش، وهي ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال: {ولا تقربوا الفواحش} ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله: {ما ظهر منها} أي الفواحش {وما بطن} ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} أي الملك الأعلى عليكم قتلها {إلا بالحق} أي الكامل، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله: {ذلكم} أي الأمر العظيم في هذه المذكورات.
ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس، ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق ليتقبلها القلب فقال: {وصّاكم به} أمراً ونهياً؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال: {لعلكم تعقلون *} أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها، فصار شأنها مؤكداً من وجهين: التصريح بالتوصية بها، والنهي عن أضدادها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين تعالى فيما قبل هذه الآيات حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ربهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم به وافترائهم عليه بعد أن بين لهم جميع ما حرمه على عباده من الطعام ثم بين في هذه الآيات أصول المحرمات ومجامعها في الأعمال والأقوال وما يقابلها من أصول الفضائل والبر.
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المتبعين للخرص والتخمين في دينهم، وللهوى فيما يحرمون ويحللون لأنفسهم ولسائر الناس أيضا بما لك من الرسالة العامة: تعالوا إلي وأقبلوا علي وأقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلي من العلم الصحيح وحق اليقين، فإن الرب وحده هو الذي له حق التحريم والتشريع، وإنما أنا مبلغ عنه بإذنه، أرسلني لذلك وعلمني على أميتي ما لم أكن أعلم وأيدني بالآيات البينات. وقد خص التحريم بالذكر مع أن الوصايا التي بين بها التلاوة أعم لمناسبة ما سبق من إنكار أن يحرم غير الله ولأن بيان أصول المحرمات كلها يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل وقد صرح بأصول الواجبات من هذا الحلال العام.
وأصل (تعالوا) و (تعال) الأمر ممن كان في مكان عال لمن دونه بأن يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر ممن في مكان عال لمن دونه بأنه يتعالى ويصعد إليه، ثم توسعوا فيه فاستعملوه في الأمر في الإقبال مطلقا. واستعمال المقيد في المطلق من ضروب المجاز المرسل إلا إذا كثر فلم يحتج إلى قرينة ولم ينظر فيه إلى علاقة كهذه الكلمة ولا سيما في غير هذا الموضع ولهي فيه خطاب ممن هو في أعلى مكان من العلم والهدى لمن هم في أسفل درك من الجهل والضلال، عبدة الأصنام، ومتبعي الظنون والأوهام.
وقوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} شروع في بيان ما حرم الرب وما أوصى به من البر، وقد أورد بعضه بصيغة النهي عن الشيء وبعضه بصيغة الأمر بضده حسب ما تقتضيه البلاغة كما سيأتي. وأن تفسيرية وندع النحاة في اضطرابهم وخلافهم في تطبيق ما في حيزها من النهي والأمر على قواعدهم، فنحن لا يعنينا إلا فهم المعاني من الكلام بغير تكلف، وما وافق القرآن من قواعدهم كان صحيحا مطردا وما لم يوافقه فهو غير صحيح أو غير مطرد، وسنريك فيه من البيان ما يغنيك عن تحقيق السعد وحل إشكالات أبي حيان.
بدأ تعالى هذه الوصايا بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى سواء كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته المصرفين لها في الأعمال وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور أو كان باتخاذ الأرباب الذين يشرعون الأحكام، ويتحكمون في الحلال والحرام وكذا من يسند إليهم التصرف الخفي فيما وراء الأسباب، وكل ذلك واضح من الآيات السابقة وتفسيرها. وتقدير الكلام: أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات، أو أول ما وصاكم به تعالى من ذلك كما يدل عليه لاحق الكلام، هو أن لا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين، فإنما عظم الأشياء العاقلة وغير العاقلة بنسبة بعضها إلى بعض، وذلك لا يخرجها عن كونها من خلق الله ومسخرة بقدرته وإرادته وعن كون العاقل منها من عبيده {إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا} (مريم93) أو أن لا تشركوا به شيئا من الشرك صغيره أو كبيره، ومقابله أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم، وهذا هو المقصود بالذات الذي دعا إليه جميع الرسل، وهو لازم للنهي عن الشرك الذي عبر به هنا لأن الخطاب موجه إلى المشركين أولا وبالذات.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي والثاني مما أتلوه عليكم أو مما وصاكم به ربكم أن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت فكيف بالعقوق المقابل لغاية الإحسان وهو من أكبر كبائر المحرمات. وقد تكرر في القرآن القران بين التوحيد والنهي عن الشرك وبين الأمر بالإحسان للوالدين. وتقدم بعضه في سورة البقرة والنساء وسيأتي أوسع تفصيل فيه في وصايا سورة الإسراء (أو بني إسرائيل) التي بمعنى هذه الوصايا في هذه السورة وفيه النهي عن قول أف لهما. وقد اختير في هذه الآية وأمثالها الأمر بالواجب من الإحسان على النهي عن مقابلة المحرم وهو الإساءة مطلقا للإيذان بأن الإساءة إليهما ليس من شأنها أن تقع فيحتاج إلى التصريح بالنهي عنها في مقام الإيجاز لأنها خلاف ما تقتضي الفطرة السليمة والآداب المرعية عند جميع الأمم.
وقد سبق في تفسير مثل الجملة أن الإحسان يتعدى بالباء وإلى فيقال أحسن به وأحسن إليه، والأول أبلغ، فهو بالوالدين وذي القربى أليق، لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتك ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك وأما من أحسنت إليه فهو الذي تسدي إليه برك ولو على بعد أو بالواسطة إذ هو شيء يساق إليه سوقا. ولم ترد هذه التعدية في التنزيل إلا في تعبيرين في مقامين: أحدهما: التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام في سورته وهو قوله لأبيه وإخوته: {هذا تأويل رؤاي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} (يوسف 100) والثاني: التعبير بالمصدر المفيد للتأكيد والمبالغة في مقام الإحسان بالوالدين في أربع سور البقرة والنساء؛ وقد عطف فيهما ذو القربى على الوالدين بالتبع، والأنعام والإسراء. وفي سورة الأحقاف: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} (الأحقاف 15) كما قرأه الكوفيون من السبعة وقرأه الباقون (حسنا) كآية سورة العنكبوت التي رويت كلمة إحسانا فيها من الشواذ. والظاهر أن الباء فيهما متعلقة بوصينا.
ولو لم يرد في التنزيل إلا قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} ولو غير مكرر لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين بما تدل عليه الصيغة والتعدية، فكيف وقد قرنه بعبادته وجعله ثانيها في الوصايا وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في وصية سورة لقمان: {أن أشكر لي ولوالديك} (لقمان 14) وورد في معنى التنزيل عدة أحاديث نكتفي منها بحديث عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) في الصحيحين والترمذي والنسائي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال:"الصلاة على وقتها" وفي رواية لوقتها قلت ثم أي؟ قال: "بر الوالدين "قلت ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" 212 فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو أكبر الحقوق العامة على الإنسان. ذلك كله بأن حق الوالدين على الولد أكبر من جميع حقوق الخلق عليه، وعاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة، فمن قصر في بر والديه والإحسان بهما كان فاسد الفطرة مضياعا للحقوق كلها فلا يرجى منه خير لأحد.
وقد بالغ بعض العلماء في الكلام على بر الوالدين حتى جعلوا من مقتضى الوصية بهما أن يكون الولد معهما كالعبد الذليل مع السيد القاسي الظالم، وقد أطمعوا بذلك الآباء الجاهلين المريضي الأخلاق حتى جروا ذا الدين منهم على أشد مما يتجرأ عليه ضعفاء الدين من القسوة على الأولاد وإهانتهم وإذلالهم وهذا مفسدة كبيرة لتربية الأولاد في الصغر وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم أولادهم كما ظلمهم آباؤهم وحينئذ يكونون من أظلم الناس للناس، وقد فصلنا القول في ظلم الوالدين للأولاد وتحكمهما في شؤونهم ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون في تفسير آية النساء (ج 5 تفسير) وكم أفسدت الأمهات بناتهن على أزواجهن. والصواب أنه يجب على الوالدين تربية الأولاد على حبهما واحترامهما احترام المحبة والكرامة لا احترام الخوف والرهبة. وسنفصل ذلك في تفسير آيات سورة الإسراء إن أحيانا الله تعالى ووفقنا.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي والثالث مما أتلوه عليكم مما وصاكم به ربكم أن لا تقتلوا أولادكم الصغار من فقر واقع بكم لئلا تروهم جياعا في حجوركم. فإنه هو الذي يرزقكم وإياهم أي ويرزقهم بالتبع لكم فالجملة تعليل للنهي. وسيأتي في سورة الإسراء {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} الإسراء 31) فقدم رزق الأولاد هنالك على رزق الوالدين عكس ما هنا لأنه متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون الأولاد فيه كبارا كاسبين وقد يصير الوالدان في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر. ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب للإشارة إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق خلافا لمن يزهدونهم في العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم. وقد ذكرنا هذه النكتة من بلاغة القرآن في تفسير {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} الأنعام 137} (ج 8 تفسير).
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي والرابع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن لا تقربوا ما عظم قبحه من الأفعال والخصال كالزنا واللواط وقذف المحصنات ونكاح أزواج الآباء. وكل منها سمي في التنزيل فاحشة فهو مما ثبتت شدة قبحه شرعا وعقلا، ولذلك يستتر بفعل الأولين أكثر الذين يقترفونهما وقلما يجاهر بهما إلا المستولغ من الفساق الذي لا يبالي ذما ولا عارا إذا كان مع مثله، وهو يتبرأ منهما لدى خيار الناس وفضلائهم...
وما تقدم في تفسير {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} (الأنعام 120) من الوجوه في ظاهره وباطنه يأتي مثله هنا فيراجع في تفسير الآية 119 من هذه السورة وهذا الجزء، إلا أن الإثم أعم من الفاحشة لأنه يشمل كل ضار من الصغائر والكبائر فحش قبحه أو لا، لذلك قال تعالى في صفة المحسنين من سورة النجم: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} (النجم 32) وقال في آية الأعراف: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف 33) قيل إنها جمعت أصول المحرمات الكلية وهي على الترقي في قبحها كما سيأتي في تفسيرها. وفي حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" رواه الشيخان في صحيحيهما.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي والخامس مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو عقد الذمة أو العهد أو الاستئمان فيدخل في عمومها كل أحد إلا الحربي. وقوله إلا بالحق هو ما يبيح القتل شرعا كقتل القاتل عمدا بشرطه. ويطلق العهد على الثلاثة. ومنه ما ورد في النهي عن قتل المعاهد وإيذائه كقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر "رض" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه من حديث أبي هريرة. وقوله: "إلا بالحق" هو ما يبيح القتل شرعا كقتل القاتل عمدا بشرطه.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الإشارة إلى الوصايا الخمس التي تليت في هذه الآية. واللام فيها للدلالة على بعد مدى ما تدل عليه الوصايا المشار إليها من الحكم والأحكام والمصالح الدنيوية والأخروية، أو بعدها عن متناول أوضاع الجهل والجاهلية ولا سيما مع الأمية. والوصية ما يعهد إلى الإنسان أن يعمله من خير أو ترك شر بما يرجى تأثيره، ويقال أوصاه ووصاه. وجعلها الراغب عبارة عما يطلب من عمل مقترنا بوعظ. وأصل معنى وصى الثلاثي وصل، ومواصاة الشيء مواصلته وهو خاص بالنافع كالمطر والنبات. يقال وصى النبت اتصل وكثر، وأرض واصية النبات...
أي وصاكم الله بذلك لما فيه من إعدادكم وباعث الرجاء في أنفسكم لأن تعقلوا ما فيه الخير والمنفعة في ترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به، فإن ذلك مما تدركه العقول الصحيحة بأدنى تأمل. وفيه دليل على الحس الذاتي وإدراك العقول بنظرها، وإذا هي عقلت ذلك كان عاقلا لها ومانعا من المخالفة. وفيه تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر للأنظار الصحيحة فيه مصلحة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
.. ختمت "سورة الأنعام "التي تعتبر بمنزلة الأم لكل ما نزل بعدها بمكة من القرآن الكريم، جولتها الحاسمة ضد معتقدات المشركين وبدعهم الضالة، بعدما أصلتها نارا حامية من حجج الله البالغة، فتناثرت أشلاؤها، وتبخرت أهواؤها، وبرزت عقائد الشرك على حقيقتها سفها لا يلحقه سفه، وبلها لا يعدله بله، على حد ما قاله ابن عباس رضي الله عنه، فجاء هذا الربع الأخير من سورة الأنعام بخلاصة الخلاصة ولب اللباب، وبما يشبه ذلك الحساب، يوضح خصائص الملة الإسلامية، ويجمل مبادئها النظرية والعلمية، ويحدد معالمها الاعتقادية والأخلاقية، وذلك في شكل وصايا إلهية لقنها الحق سبحانه وتعالى لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأمره بتلقينها لأمته من بعده وتبليغها للناس كافة، حتى يهتدوا بهديها، ويعوضوا ما هو شر وأذى من عقائد الشرك وبدعه، بما هو خير وأبقى من عقائد الإسلام وبدائعه، {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} – {وذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} – {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. ولهذا المعنى قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} إلى قوله تعالى {لعلكم تتقون}. ورعيا للتناسب مع السياق الذي كانت عليه الآيات الكريمة في الربعين الماضيين، وهو سياق ما حرمته الجاهلية على نفسها من الحرث والأنعام، مما سفه وأبطله الإسلام، ابتدأ هذا الربع بقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} أي قل يا محمد للمشركين إذا أردتم أن تعرفوا ما هو حرام عليكم، عن علم وبينة، وعلى هدى من الوحي الإلهي الصحيح، فتعالوا لتسمعوا كلام الله الجامع المانع، وتعرفوا ما هو أساس الحرام وأصله، وما هو الحرام الذي لا حرام يعدله ولا حرام يفوقه، ألا وهو الشرك، وها هو الحق سبحانه وتعالى: يوصيكم قبل كل شيء {ألا تشركوا به شيئا} فالشرك هو أب الحرام، والشرك هو منبع الحرام، والشرك هو الكمامة التي يضعها الشيطان على عين الإنسان وعقله وقلبه، فيقتاده كالبهيمة العجماء، ويوسوس إليه بما يشاء، ويسخره لما يشاء، ولولا الشرك لما نشأ عند المشركين هذا النظام الفوضوي الفاسد، ولا نشأت عندهم هذه التقاليد الاجتماعية السخيفة، ولا ثبتت في عقولهم هذه الأفكار الطفيلية الوضيعة، فالشرك هو علة العلل في الفساد الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي، ولا دواء له إلا عقيدة التوحيد الإسلامية، التي تحرر الفكر والعقل من سيطرة الخيالات والأحلام، وتحرر القلب والنفس من سيطرة الأهواء والأوهام، وتعرف الإنسان بوضعه الطبيعي الصحيح بين سلسلة المخلوقات، وبعلاقته الطبيعية مع الكون والمكون، والخلق والخالق، فينطلق لأداء رسالته متحررا من جميع العقد النفسية، واثقا من نفسه وواثقا بالعناية الإلهية {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وبعدما حدد كتاب الله المحرمات وقصرها في هذا السياق على الشرك وحده، باعتبار أن الشرك هو أب المحرمات ومنبعها الأساسي، كما أن الخمر هي "أم الخبائث" ابتدأ يعرض جملة من الوصايا الإلهية التي لا يقوم الإسلام بدونها. فأشار إلى حقوق الوالدين وما يجب على الأولاد لهما من معاملة كريمة و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} كما أشار إلى حقوق الأولاد وما يجب على آبائهم من تضحية في سبيلهم، وبين كتاب الله أن نزول الفقر والإملاق بالوالدين لا ينبغي أن يكون مبررا لقتل ما ولد لهم من الأولاد وسفك دمائهم، كما كان يفعل بعض المشركين بأولادهم عندما يصيبهم الفقر والإملاق {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} فالله تعالى يتكفل برزق الوالدين الفقراء كما يتكفل برزق أولادهم، وهذه الوصية الإلهية مرتبطة بصالح الأسرة كل الارتباط، وهي دعوة صريحة إلى وجوب التكافل فيما بينها: تكافل الأولاد مع الوالدين، وتكافل الوالدين مع الأولاد، بحيث يكون كل من الطرفين في خدمة الآخر، مسرعا في كل وقت إلى معونته، مستعدا للتضحية في سبيله ونجدته دائما، وكذلك قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم}. ومن لطائف التفسير في هذا المقام ما لاحظه ابن كثير رحمه الله من الفرق بين هذه الآية {نحن نرزقكم وإياهم} بتقديم رزق الآباء على الأبناء، والآية الأخرى الواردة في سورة الإسراء {نحن نرزقهم وإياكم} بتقديم رزق الأولاد على الآباء، وهو أن الآية الوردة في هذا الربع تتحدث عن الآباء الفقراء فعلا، فجاء قوله تعالى: نحن نرزقكم وإياهم} بتقديم رزق الآباء على رزق الأولاد، لأنه هو الأهم هنا في السياق، بخلاف الآية الأخرى الواردة في سورة الإسراء، فقد جاء فيها {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} مما يدل على أن الآباء غير فقراء فعلا، وإنما يخشون الفقر بسبب الأولاد، فأمروا بأن لا يقتلوا أولادهم، خوفا من الفقر الذي يمكن أن يحدث لهم في مستقبل الأيام، ثم جاء التعقيب عليها بقوله تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} أي نحن نرزق أولئك الأولاد كما نرزقكم، وكان البدء هنا برزق الأولاد للاهتمام بهم، حيث إن رزقهم هو محور الحديث، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم، فرزقهم على الله لا عليكم. وانتقل كتاب الله من وصية الخاصة بالأسرة المسلمة إلى وصايا أخرى تتعلق بالمجتمع الإسلامي، والدولة الإسلامية على العموم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنّ الشرك منهجٌ متكاملٌ، يحدّد للإنسان طريقته في التفكير، وفي السلوك، وفي أسلوب الحياة، وممارسته للمسؤوليّة، وتصوره للكون وللحياة، ولله وللناس، وهو منهج لا يدعو إلى الاستقرار بل يبعث على القلق. ولذلك أراد الله للناس أن يبتعدوا عنه، لأنه يمثل الخط الذي يبعدهم عن الحقيقة، ويساهم في تعقيد حياتهم، وتضييعها وتمييعها في أكثر من لونٍ وأكثر من صعيد. أمّا التوحيد، فيمثل وحدة الله والحقيقة والهدف، وجميع الوسائل التي تربط الإنسان بالهدف، إنه منهج الاستقامة الذي يربط بين البداية والنهاية في اتجاهٍ واحدٍ، ليس هناك إلا وحيٌ واحدٌ، يستمدُّ الإنسان منه منهج التفكير، وليس هناك إلا إله واحدٌ يتجه إليه في العبادة وفي الطاعة، ويستعين به في كل شيء، وبذلك يعرف الإنسان نفسه وربّه، ويعرف من خلال ذلك كيف يواجه مسؤوليته في الحياة وكيف يحدد دوره في حركة الأمّة الواحدة في بناء الكون على هدى الله ووحيه. وبذلك كان الشرك ظلماً لله وللناس وللحياة، وكان جريمة لا يغفرها الله، لأنها فوق الجرائم كلها في الخطورة...