قوله تعالى : { لا تمدن عينيك } ، يا محمد ، { إلى ما متعنا به أزواجاً } ، أصنافا ، { منهم } أي : من الكفار متمنيا لها نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ومزاحمة أهلها عليها . { ولا تحزن عليهم } ، أي : لا تغنم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن محمد ابن العنزي ، حدثنا عيسى بن نصر ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا جهم بن أوس ، قال : سمعت عبد الله بن مريم - مر به عبد الله بن رستم في موكبه ، فقال لابن أبي مريم : إني لاشتهي مجالستك وحديثك ، فلما مضى قال ابن مريم - سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تغبطن فاجرا بنعمته ، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته ، إن له عند الله قاتلا لا يموت " ، فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه وهب أبا داود الأعور ، قال : يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت ؟ قال ابن أبي مريم : النار .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفر السرخسي ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الفضل الفقيه ، حدثنا أبو الحسن بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أنبأنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " . وقيل : هذه الآية متصلة بما قبلها لما من الله تعالى عليه بالقرآن نهاه عن الرغبة في الدنيا . روي أن سفيان بن عيينة - رحمه الله - تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي : لم يستغن بالقرآن . فتأول هذه الآية . قوله تعالى : { واخفض جناحك } ، لين جناحك { للمؤمنين } ، وارفق بهم ، والجناحان لابن آدم جانباه .
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا ، فقال - تعالى - : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } . . .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله ؟
قلت : يقول الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهى إليها حقيرة ضئيلة ، وهى القرآن العظيم ، فعليك أن تستغنى به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . . .
قال أبو بكر الصديق ؛ من أوتى القرآن ، فرأى أن أحدًا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيمًا ، وعظم صغيرًا .
وقال ابن كثير : وقال ابن أبى حاتم : ذكر عن وكيع بن الجراح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبى رافع صاحب النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أضاف النبى صلى الله عليه وسلم ضيفا ، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود : يقول لك محمد رسول الله : أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب . قال اليهودى : لا إلا برهن . فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : أما والله إنى لأمين من في السماء ، وأمين من في الأرض ، ولئن أسلفنى أو باعنى لأؤدين إليه . فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية . { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } كأنه - سبحانه - يعزيه عن الدنيا " .
وقوله - سبحانه - { تمدن } من المد ، وأصله الزيادة . واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب . يقال : مد فلان عينه إلى مال فلان ، إذا اشتهاه وتمناه وأراده .
والمراد بالأزواج : الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا .
والمعنى : لا تحفل - أيها الرسول الكريم - ولا تطمح ببصرك طموح الراغب في ذلك المتاع الزائل ، الذي متع الله - تعالى - به أصنافًا من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شيء سينتهى عما قريب ، وقد آتاهم الله - تعالى - إياه على سبيل الاستدراج والإِملاء ، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى ، وهو القرآن العظيم .
قال صاحب الظلال : والعين لا تمتد . إنما يمتد البصر أى : يتوجه . ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع . وهى صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل . .
والمعنى وراء ذلك ، ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك المتاع الذي آتاه الله - تعالى - لبعض الناس . . . ولا يلقى إليه نظرة اهتمام ، أو نظرة استجمال ، أو نظرة تمن .
وقال - سبحانه - هنا { لا تمدن . . . } بدون واو العطف ، وقال في سورة طه { ولا تمدن . . . } بواو العطف ، لأن الجملة هنا مستأنفة استئنافًا بيانيًا ، جوابًا لما يختلج في نفوس بعض المؤمنين من تساؤل عن أسباب الإِملاء والعطاء الدنيوى لبعض الكافرين . ولأن الجملة السابقة عليها وهى قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني . . . } كانت بمنزلة التمهيد لها ، والإِجمال لمضمونها .
أما في سورة طه ، فجملة { ولا تمدن . . . } معطوفة على ما سبقها من طلب وهو قوله - تعالى - { فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً . . . } وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } نهى له صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بالمصير السيئ الذي ينتظر أعداءه .
أى : ولا تحزن - أيها الرسول الكريم - لكفر من كفر من قومك ، أو لموتهم على ذلك ، أو لأعراضهم عن الحق الذي جئتهم به ، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء ، أما أنت فعليك البلاغ .
وقوله - سبحانه - { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } بيان لما يجب عليه نحو أتباعه ، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه .
وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف .
أى : وكن متواضعًا مع أتباعك المؤمنين ، رءوفًا بهم ، عطوفًا عليهم .
قال الشوكانى : وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب . . . وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإِنسان لأتباعه . . . والجناحان من ابن آدم : جانباه .
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ سورة الحجر : 85 ] ، ومن تساؤل يجيش في النّفس عن الإملاء للمكذّبين في النّعمة والتّرف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة { لا تمدن عينيك } بياناً لما يختلج في نفس السامع من ذلك ، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن الّتي قبلها فصل البيان عن المبيّن .
ولولا أن الجملة الّتي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذٍ مجرد نهي لا اتّصال له بما قبله ، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه ( 129 131 ) : { فاصبر على ما يقولون وسبّح بِحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ومن ءَاناء اللّيل فسبّح وأطراف النّهار لعلّك ترضى ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الحياة } فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة الّتي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم .
والمَدّ : أصله الزيادة . وأطلق على بسط الجسم وتَطويله . يقال : مَدّ يده إلى كذا ، ومدّ رجله في الأرض . ثم استعير للزيادة من شيء . ومنه مدد الجيش ، ومدّ البحر ، والمد في العمر . وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة . واستعير المدّ هنا إلى التّحديق بالنظر والطموح به تشبيهاً له بمدّ اليد للمتناول ، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم ، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتّبعوا ما آتيناك ولكنّهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم .
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور ، أي الكفّار ونسائهم . ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتّع لاستكمالها جميع اللّذات والأنس . ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب . فوجه ذكره في الآية أن التمتّع الّذي تمتدّ إلى مثله العين ليس ثابتاً لجميع الكفّار بل هو شأن كبرائهم ، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش .
والنّهي عن الحزن عليهم شامل لكلّ حال من أحوالهم من شأنها أن تحْزن الرّسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه . فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ سورة الكهف : 6 ] . ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة ، فلعلّ رسول الله أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب . ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم ، وكناية عن رحمة الرسول بالنّاس .
ولما كان هذا النّهي يتضمنّ شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله { واخفض جناحك للمؤمنين } . وهو اعتراض مراد منه الاحتراس . وهذا كقوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ سورة الفتح : 29 ] .
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع حفض جناحه يريد الدنوّ ، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق ، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه . وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية ، والجناح تخييل . وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله : { واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة } [ سورة الإسراء : 24 ] وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثَل في التواضع واللّين في المعاملة . وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدّة .
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب مَن كان متواضعاً فظهر منه تكبرّ ( ذكره في سورة الشعراء ) :
وأنْتَ الشّهيرُ بخفض الجناح *** فلا تكُ في رفعه أجدلاً
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } [ سورة الحجر : 94 ] .