قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } . أي يبست وجفت ، جفاف القلب : خروج الرحمة واللين عنه ، وقيل : غلظت ، وقيل : اسودت .
قوله تعالى : { من بعد ذلك } . من بعد ظهور الدلالات . قال الكلبي : قالوا بعد ذلك : نحن لم نقتله ، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك .
قوله تعالى : { فهي } . في الغلظة والشدة .
قوله تعالى : { كالحجارة أو أشد قسوة } . قيل : أو بمعنى بل . أو بمعنى الواو ( مائة ألف أو يزيدون ) أي : بل يزيدون أو ويزيدون ، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة ، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار ، وقد لان لداود عليه السلام ، والحجارة لا تلين قط ، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال :
قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . قيل : أراد به جميع الحجارة ، وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط .
قوله تعالى : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . أراد به عيوناً دون الأنهار .
قوله تعالى : { وإن منها لما يهبط } . ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله .
قوله تعالى : { من خشية الله } . وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود . فإن قيل : جماد لا يفهم ، فكيف يخشى قيل : الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه . ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، لا يقف عليه غير الله ، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقال ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) الآية ، فيجبعلى المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى سبحانه وتعالى .
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حراء : إلي يا رسول الله .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، ثنا السدي أبو الحسين محمد ابن حسن العلوي ، أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري ، أنا محمد ابن إسماعيل الصائغ ، أنا يحيى بن أبي بكر ، أنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك ابن حرب . عن جابر بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم ، عن أبي بكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن أبي بكر . وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : " هذا جبل يحبنا و نحبه " .
وروي عن أبي هريرة يقول : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال : بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي ، فركبها فضربها ، فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وقال : " بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها ، فأدركها صاحبها فاستنفذها ، فقال الذئب : فمن لها يوم السبع أي يوم القيامة ، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ! فقال : أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وصح عن أبي هريرة ، قال : " كان رسول صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ . أي : اسكن . فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " صحيح أخرجه مسلم . أخبرنا عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع ، أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي ، أنا محمد بن أيوب بن ضريس وهو يجلي الرازي ، أنا محمد بن الصباح ، عن الوليد ابن أبي ثور ، عن السدي ، عن عبادة بن أبي يزيد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر ، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة ، حتى سمعها أهل المسجد ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت " .
قال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله ، ويشهد لما قلنا قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
قوله تعالى : { وما الله بغافل } . بساه .
قوله تعالى : { عما تعملون } . وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون ، بل يجازيكم به ، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء .
ثم بين القرآن الكريم ، بعد ذلك أن هذه المعجزات الباهرة التي تزلزل المشاعر ، وتهز القلوب ، وتبعث في النفوس الإِيمان ، لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة لأنه قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم ، ومحا الاعتبار بها من عقولهم ، فقال تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
والمعنى : ثم صلبت قلوبكم - يا بني إسرائيل - وغلظت من بعد أن رأيت ما رأيتم من معجزات منها إحياء القتيل أمام عينكم ، فهي كالحجارة في صلابتها وببوستها ، بل هي أشد صلابة منها ، لأن من الحجرة ما فيه ثقوب متعددة ، وخروق متسعة ، فتتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات ، ولأن من بينها ما يتصدق تصدعاً قليلاً فيخرج منه ماء اليعون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته ، أما أنتم - يا بني إسرائيل - فإن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ ولا تنقاد للخير ، ولا تفعل ما تؤمر به مهما تعاقبت عليكم النعم والنقم والآيات ، وما الله بغافل عما تعملون .
وقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بيان لما طرأ على قلوب بني إسرائيل من بعد عن الاعتبار ، وعدم تأثر بالعظات وإعراض عن الإِنابة والإِذعان لآيات الله وتحلل من المواثيق التي أقروا بها على أنفسهم وجيء ( بثم ) التي هي للترتيب والتراخي . لاستبعاد استيلاء الغلظة والقسوة على قلوبهم بعد أن رأوا الكثير من المعجزات ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم - بعد أن ساق لهم قصة البقرة وما ترتب عليها من منافع وعبر : ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم - يا بني إسرائيل - ولم تفدكم المعجزات : فقست قلوبكم وكان من المستبعد أن تقسوا .
وقوله تعالى : { بَعْدِ ذلك } فيه زيادة تعجيب من إحاطة القساوة بقلوبهم ، بعد توالى النعم ، وتكاثر المعجزات التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في الآيات السابقة .
واسم الإِشارة ( ذلك ) مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في الآيات السابقة .
و ( أو ) في قوله تعالى : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } قيل : للتنويع ، فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، فمنها ما هو قاس كالحجارة ، ومنها ما هو أشد منها قسوة ، أي : فبعض قلوبكم كالحجارة في صلابتها وبعضها أشد من الحجارة في صلابتها .
وقيل : للتشكيك بالنسبة للمخاطبين ، لا إلى المتكلم ، كأن يقول أحد الناس لآخر ، إن هذه القلوب قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها .
والأظهر أن تكون للإِضراب على طريقة المبالغة والمعنى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد منها قسوة ، إذ لا شعور فيها يأتي بخير ، والحجارة ليست كذلك .
وشبه - سبحانه - قلوبهم بالحجارة في القسوة ، لأن صلابة الحجرة أعرف للناس وأشهر ، حيث إنها محسوسة لديهم ومتعارفة بينهم ولذا جاء التشبيه بها .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل أشد قسوة ، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ؟ قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة ، ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة . كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة " .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية ، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة ، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم . إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقاً واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة ، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقاً مختلفة تنجم عنها العيون النابعة ، والآبار الجوفية المفيدة . ومنهخا ما ينقاد لأوامر الله عن طواعية وامتقال . أما قلوبكم أنتم فلا يصدر عنها نفع ، ولا تتأثر بالعظات والعبر ، ولا تنقاد للحكم التي من شأنها هداية النفوس .
وقوله تعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد وتخويف ، حيث إنه - سبحانه - سيحاسبهم على أعمالهم ، وسيذيقهم ما يستحقونه من عقاب جزاء جحودهم لنعمه ، وعصيانهم لأمره .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بما هم أهله . من قساوة القلب وانطماس البصيرة ، وعدم التأثر بالعظات مهما كثرت . وبالىيات مهما توالت .
{ ثم قست قلوبكم } القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر . وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم الاستبعاد القسوة .
{ من بعد ذلك } يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب . { فهي كالحجارة } في قسوتها { أو أشد قسوة } منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة ، وأنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و{ أو } للتخيير أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها .
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به . وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى . والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ { إن } على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم .
{ وما الله بغافل عما تعملون } وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده ، والباقون بالتاء .
{ ثم } هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له { ثم } إذا عَطفت الجمل ، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ { قست قلوبكم } وكان من البعيد قسوتها .
وقوله : { من بعد ذلك } زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني *** وبعدَ عَطائك المائة الرِّتاعَا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ . ووجه استعمال { بعد } في هذا المعنى أنها مجاز في معنى ( مع ) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتاً أو نفياً عُبر ببعد عن معنى ( مع ) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي .
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها . وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : { أو أشد قسوة } كما سيأتي .
وقوله : { فهي حجارة } تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :
عليهن شعثٌ عامدون لربهم *** فهُنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جداً وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموماً . وقد رأيت بيتاً جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :
في الريق سُكْر وفي الأَصداغ تجعيد *** هذا المُدَام وهاتيك العناقيد
فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله : تجعيد لا يناسب العناقيد .
فإن قلت لم عددته مذموماً وما هو إلا كتجريد الاستعارة ؟
قلت : لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفنناً لطيفاً بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه .
وقوله : { أو أشد قسوة } مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله : { فهي كالحجارة } و ( أو ) بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة .
وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له ( أو ) لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يُبنى على ذلك ابتداءُ التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة{[141]} :
بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى *** وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح
فليست { أو } للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع مَا إذا كُرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى : { أوْ كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] . ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفاً على الخبر الذي هو { كالحجارة } أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافاً ولا يذمهم تحاملاً بل هومتثبت متحر في شأنهم فلا يُثْبِت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تَقَصَّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسَوِّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفاً وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق :
فقالت لنا أهلاً وسهلاً وزوَّدَتْ *** جَنَى النَّحْل بل ما زوّدتْ منه أطيب
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعاً مغايراً لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة .
وقوله : { وإن من الحجارة لما يتفجَّر } إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يُستغرب ، وموقع هذه الواو الأولى في قوله : { وإن من الحجارة } عسير فقيل : هي للحال من الحجارة المقدَّرة بعد { أَشَد } أي أشد من الحجارة قسوةً ، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهرُ في هذه الأحوال التي وُصِفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال ، وقيل هي الواو للعطف على قوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } قاله التفتزاني ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخباراً عن مزايا فَضُلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تُعطَّلُ قلوب هؤلاء من صدور النفع بها ، وقيل : الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعدكما صرح به ابن عرفة ، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة { وإن من الحجارة } وما عطف عليها معترضاتٌ بين قوله : { ثم قست قلوبكم } وبين جملة الحال منها وهي قوله : { وما الله بغافر عما تعملون } .
والتوكيد بإنَّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يُناكدُ ذلك كما تقدم عند قوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } [ البقرة : 61 ] .
ومن بديع التخلص تأخُّر قوله تعالى : { وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله } والتعبير عن التَسخُّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التلكيفي ليتأتى الانتقال إلى قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } وقوله : { أفتطعمون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] .
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جرياً على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه مِن تكاثُره أو بضاغطٍ آخر من أهْوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماءُ إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماءُ قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقباً في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعاً كالعيون . وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر ، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة . وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعدَه منفذاً إلى أرض ترابية فيخرج طافياً من سطح الصخور التي جرى فوقها . وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تَطَلَّبَ الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل .
والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه . وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال . وجُعلت هنا مجازاً عن قبول الأمر التكويني إما مرسلاً بالإطلاق والتقييد ، وإما تمثيلاً للهيئة عند التكوين بهيئة المكلَّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها . وقد قيل إن إسناد ( يهبط ) للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها{[142]} .
وقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم .
وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف { يعملون } بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غُيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين . وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضاً .