قوله تعالى : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية . قال الكلبي ، ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم فيحدث بها قريشاً ، ويقول : إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد : يعني شراء القيان والمغنين ، ووجه الكلام على هذا التأويل : من يشتري ذات أو ذا لهو الحديث .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزني ، حدثنا جدي محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا مشمعل بن ملحان الطائي ، عن مطرح بن يزيد ، عن عبد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام ، وفي مثل هذا أنزلت هذه الآية : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } ليضل عن سبيل الله وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت " .
أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد القفال ، أنبأنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنبأنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي ، أنبأنا محمد بن غالب بن تمام ، أنبأنا خالد بن مرثد ، أنبأنا حماد بن زيد ، عن هشام هو ابن حسان ، عن محمد هو ابن سيرين ، عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة " . قال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه ، إن الله يقول : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية . وعن عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير قالوا : لهو الحديث هو الغناء ، والآية نزلت فيه . ومعنى قوله : { يشتري لهو الحديث } أي : يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، قال أبو الصهباء البكري سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال : هو الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات . وقال إبراهيم النخعي : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف . وقيل : الغناء رقية الزنا . وقال ابن جريج : هو الطبل . وعن الضحاك قال : هو الشرك . وقال قتادة : هو كل لهو ولعب . { ليضل عن سبيل الله بغير علم } أي : يفعله عن جهل . قال قتادة : بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق . قوله تعالى : { ويتخذها هزواً } قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب : { ويتخذها } بنصب الذال عطفاً على قوله : ليضل ، وقرأ الآخرون بالرفع نسقاً على قوله : يشتري . { أولئك لهم عذاب مهين* وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم* إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم* خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم* }
ثم بين - سبحانه - حال طائفة أخرى من الناس ، كانا على النقيض من سابقيهم ، فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي . . . فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات اشهرها ، أنهما نزلتا فى النضر بن الحارث . اشترى قينة - أى مغنية - ، وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه ، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه .
و { لَهْوَ الحديث } : باطله ، ويطلق على كل كلام يلهى القلب ، ويشغله عن طاعة الله - تعالى - ، كالغناء ، والملاهى ، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله - تعالى - :
وقد فسر كثير من العلماء بالغناء ، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيرا .
و { مِنَ } فى قوله { وَمِنَ الناس } للتبعيض ، أى : ومن الناس من يترك القول الذى ينفعه ، ويشترى الأحاديث الباطلة ، والخرافات الفاسدة .
قال القرطبى ما ملخصه : هذه إحدى الآيات التى استدل بها العلماء على كارهة الغناء والمنع منه . ولا يختلف فى تحريم الذى يحرك النفوس ، ويبعثها على الغزل والمجون . . فأما ما سلم من ذلك ، فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان فى حفر الخندق . .
وقوله : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } تعليل لاشتراء لهو الحديث . والمراد بسبيل الله - تعالى - : دينه وطريقه الذى اختاره لعباده .
وقد قرأ الجمهور : { ليُضل } بضم الياء - أى : يشرتى لهو الحديث ليضل غيره عن صراط الله المستقيم ، حالة كونه غير عالم بسوء عاقبة ما يفعله ، ولكى يتخذ آيات الله - تعالى - مادة لسخريته واستهزائه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليَضل } - بفتح الياء - فيكون المعنى : يشترى لهو الحديث ليزداد رسوخا فى ضلاله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : القراءة بالضمر بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو ، أن يصد الناس عن الدخول فى الإِسلام واستماع القرآن ، ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ .
قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذى كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده فإن المخذوف كان شتديد الشكيمة فى عداوة الدين وصد الناس عنه . والثانى : أن بوضع ليضَل موضع ليضُل ، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . .
وقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بيان لسوء عاقبة من يؤثر الضلالة على الهداية .
أى : أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ليصرفوا الناس عند دين الله - تعالى - ، وليستهزئوا بآياته ، لهم عذاب يهينهم ويذلهم ، ويجعلهم محل الاحتقار والهوان .
لما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما قال [ الله ]{[22922]} تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] ،
عطف بذكر حال الأشقياء ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب ، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : هو - والله - الغناء .
قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يزيد بن يونس ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء البكري ، أنه سمع عبد الله بن مسعود - وهو يسأل عن هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } - فقال عبد الله : الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها{[22923]} ثلاث مرات{[22924]} .
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا حُمَيْد الخراط ، عن عمار ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء : أنه سأل ابن مسعود عن قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : الغناء{[22925]} .
وكذا قال ابن عباس ، وجابر ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومكحول ، وعمرو بن شعيب ، وعلي بن بَذيمة .
وقال الحسن البصري : أنزلت هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } في الغناء والمزامير .
وقال قتادة : قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } : والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكنْ شراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق ، وما يضر على ما ينفع .
وقيل : عنى بقوله : { يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } : اشتراء المغنيات من الجواري .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي : حدثنا وَكِيع ، عن خَلاد الصفار ، عن عُبَيْد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن{[22926]} عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ، وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عز وجل عَلَيّ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } .
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير ، من حديث عُبَيد الله بن زحر بنحوه{[22927]} ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب . وضَعُفَ {[22928]} علي بن يزيد المذكور .
قلت : علي ، وشيخه ، والراوي عنه ، كلهم ضعفاء . والله أعلم .
وقال الضحاك في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } يعني : الشرك . وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله .
وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله .
وعلى قراءة فتح الياء ، تكون اللام لام العاقبة ، أو تعليلا للأمر القدري ، أي : قُيضوا لذلك ليكونوا كذلك .
وقوله : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزوا ، يستهزئ بها .
وقال قتادة : يعني : ويتخذ آيات الله هزوا . وقول مجاهد أولى .
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : كما استهانوا بآيات الله وسبيله ، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر .
عطف على جملة { تلك ءايات الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . والمعنى : أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلّوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب . وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس ، وهذا تخلّص من المقدمة إلى مَدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالاً ولا حكمة .
وتقديم المُسند في قوله { من الناس } للتشويق إلى تلقي خبره العجيب . والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة البقرة ( 16 ) ؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته : فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام ، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره ، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم .
واللهو : ما يُقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع ، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة . { ولهو الحديث } ما كان من الحديث مراداً للهو فإضافة { لهو } إلى { الحديث } على معنى { مِن } التبعيضية على رأي بعض النحاة ، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى { من } التبعيضية فيردها إلى معنى اللام .
وتقدم اللهو في قوله { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } في سورة الأنعام ( 32 ) . والأصح في المراد بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصّها على قريش في أسمارهم ويقول : إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام . ومن المفرسين من قال : إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كُتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشاً ، أي بواسطة من يترجمها لهم . ويشمل لفظ { النَّاس } أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره { أولئك لهم عذاب مهين } .
وقيل المراد ب { من يشتري لهو الحديث } من يقتني القينات المغنيات . روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارةٍ فيهن وثمنُهن حرام » في مثل ذلك أُنزلت هذه الآية { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمداً يعني البخاري يقول علي بن يزيد يضعف اهـ .
وقال ابن العربي في « العارضة » : في سبب نزولها قولان : أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث . الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم اهـ . وألفاظ الآية أنسب انطباقاً على قصة النضر بن الحارث .
ومعنى { ليضل عن سبيل الله } أنه يفعل ذلك ليلهي قريشاً عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى ، أي إلى الدين الذي أراده ، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله ، وهذا زيادة في تفظيع عمله . وقرأ الجمهور { ليُضل } بضم الياء . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليزداد ضلالاً على ضلاله إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس ، وبذلك يكون مآل القراءتين متحدّ المعنى .
ويتعلق { ليضل عن سبيل الله } بفعل { يشتري } ويتعلق به أيضاً قوله { بغير علم } لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلَّق المبني عليه الكلام ، فالمعنى : يشتري لهو الحديث بغير علم ، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق . والضمير المنصوب في { يتخذها } عائد إلى { سبيل الله ، } فإن السبيل تؤنث . وقرأ الجمهور { ويتخذُها } بالرفع عطفاً على { يشتري ، } أي يشْغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤاً . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفاً على { ليضل ، } أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءاً . ومآل المعنى متّحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه . وأما الإضلال فقد رُجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل .
والهزؤ : مصدر هَزأ به إذا سخر به كقوله { ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً } [ البقرة : 231 ] ولما كان { من يشتري لهو الحديث } صادقاً على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع { أولئك لهم عذاب مهين } .
واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه لأجل ما سبق اسمَ الإشارة من الوصف .
وجملة { أولئك لهم عذاب مهين } معترضة بين الجملتين جملة { من يشتري } وجملة { وإذا تتلى عليه آياتنا } فهذا عطف على جملة { يشتري } الخ . والتقدير : ومن الناس من يشتري الخ و { إذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبراً } ؛ فالموصول واحد وله صلتان : اشتراء لهو الحديث للضلال ، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من يشتري لهو الحديث} باطل الحديث، يقول: باع القرآن بالحديث الباطل حديث رستم وأسفندياز، وزعم أن القرآن مثل حديث الأولين حديث رستم وأسفنديار.
{ليضل عن سبيل الله} لكي يستنزل بحديث الباطل عن سبيل الله الإسلام.
{بغير علم} يعلمه {ويتخذها هزوا}: ويتخذ آيات القرآن استهزاء به مثل حديث رستم وأسفنديار، وهو الذي قال: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين.
وذلك أن النضر بن الحارث قدم إلى الحيرة تاجرا، فوجد حديث رستم وأسفنديار، فاشتراه، ثم أتى به أهل مكة، فقال: محمد يحدثكم عن عاد وثمود، وإنما هو مثل حديث رستم وأسفنديار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل، في تأويل قوله:"وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث" فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الحديث ويستحبه... عن قَتادة، قوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ "والله لعله أن لا ينفق فيه مالاً، ولكن اشتراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع...
وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
فإن قال قائل: وكيف يشتري لهو الحديث؟ قيل: يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فيكون مشتريا لهو الحديث.
وأما الحديث، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له...
وقال آخرون: عنى باللهو: الطّبل... وقال آخرون: عنى بلهو الحديث: الشرك... والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسولُه، لأن الله تعالى عَمّ بقوله "لَهْوَ الحَدِيثِ" ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك.
وقوله: "لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ" يقول: ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله... وقوله: "بغَيْرِ عِلْمٍ" يقول: فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث، جهلاً منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه.
وقوله: "وَيَتّخِذَها هُزُوا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة: «وَيَتّخِذُها» رفعا، عطفا به على قوله: "يَشْتَرِي" كأن معناه عندهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "وَيَتّخِذَها" نصبا عطفا على "يضلّ"، بمعنى: ليضلّ عن سبيل الله، وليتخذَها هُزُوا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ، فمصيب الصواب في قراءته، والهاء والألف في قوله: ويَتّخِذَها من ذكر سبيل الله... وقال آخرون: بل ذلك من ذِكر آيات الكتاب...
"ويَتّخِذَها هُزُوا" يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب. واتخاذه ذلك هُزُوا هو استهزاؤه به.
وقوله: "أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ليضل عن سبيل الله "أي ليتشاغل بما يلهيه عن سبيل الله، ومن قرأ بالضم أراد ليضل غيره بذلك...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
تأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى به أهل الباطل واللعب، وذلك أن المعنيّ بذلك، النضر بن الحارث، الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد كان يشتري كتباً فيها أحاديث الفرس، فكان يتلهى بها في مجالسهم ويجعلها كالمعارضة للقرآن، وهذه الأقوال أليق بالظاهر، لأن الغناء لا يطلق عليه الوصف بأنه حديث ولا إضلال، وإنما يطلق ذلك على الأحاديث الكاذبة الجارية مجرى القدح في القرآن، فمن هذا الوجه يدل على أن الإقدام على كل قوم بغير علم لا يحسن، لأن الله تعالى قبح ذلك من حيث إنه كان إقداماً بغير علم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللهو: كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و {لَهْوَ الحديث} نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقا، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه...
فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفّة خز وباب ساج. والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث:"الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله: {يَشْتَرِى} إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله: {اشتروا الكفر بالإيمان} [آل عمران: 177] أي استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرىء: {لِيُضِلَّ} بضم الياء وفتحها. و {سَبِيلِ الله} دين الإسلام أو القرآن.
فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه. والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة، فدل بالرديف على المردوف.
فإن قلت: ما معنى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} قلت: لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال: يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً}، والتوعد بالعذاب المهين.
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه:
الأول: أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح.
الثاني: هو أن الحديث إذا كان لهوا لا فائدة فيه كان أقبح.
الثالث: هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « روحوا القلوب ساعة فساعة» رواه الديلمي عن أنس مرفوعا ويشهد له ما في مسلم « يا حنظلة ساعة وساعة» والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله: {ليضل عن سبيل الله} كان فعله أدخل في القبح.
{بغير علم} عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم.
{مهين} إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى، فإنه لا يكرمه. فقوله: {عذاب مهين} إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مهين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي: كما استهانوا بآيات الله وسبيله، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.
ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: {بغير علم} ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى. ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال، قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على "يضل "في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفاً على {يشتري}: {ويتخذها} أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق {هزواً}.
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى "من" بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ {أولئك} أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: {لهم عذاب مهين} أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لِيُضِلَّ} الناس {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: بعدما ضل بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئ عن الضلال. وإضلاله في هذا الحديث؛ صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق المبين، والصراط المستقيم. ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها، وبمن جاء بها، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق.
والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان، وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم.
(ومن الناس من يشتري لهو الحديث).. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو (ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة وهو سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس.
ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: (أولئك لهم عذاب مهين).. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتقديم المُسند في قوله {من الناس} للتشويق إلى تلقي خبره العجيب.
والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} في سورة البقرة (16)؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته: فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.
بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته، وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلاحا لمن سار على هديه يبين لنا أن هناك نوعا آخر من الناس ينتفعون بالضلال ويستفيدون منه، وإلا ما راجت سوقه، ولما انتشر بين الناس أشكالا وألوانا.
لذلك نرى للضلال فئة مخصوصة حظهم أن يستمروا أن ينتشر لتظل مكاسبهم، ولتظل لهم سيادتهم على الخلق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.
وطبيعي إن وجد قانون يعيد توازن الصلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلا هؤلاء يحاربونه ويحاربون أهله ويتهمونهم ويشككون في نواياهم، بل ويواجهونهم بالسخرية والاستهزاء مرة وبالتعدي مرة أخرى. وربما قطعوا عليهم سبل الحياة، كما عزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، ثم يكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة مرة أخرى، لماذا؟ لأن حياتهم تقوم على هذا الضلال فلا بد أن يحافظوا عليه. والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلاء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى الإيمان يعرفون تماما أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج الله وداعي الخير لا بدّ أن يميلوا إليه؛ لذلك يحولون بين آذان الناس ومنطق الحق، فهم الذين قالوا للناس: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه... (26)} [فصلت].
وما ذلك إلا لأنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سمعته الأذن العربية لا بدّ وأن تتأثر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان.
فإذا ما أفلت منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحق أتوه بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحق إلى الباطل.
وَمِنَ النَّاسِ: من هنا للتبعيض أي: الناس المستفيدون من الضلال، والذين يسوؤهم أن يأتم الناس جميعا بمنطق واحد، وهدف واحد، وهدى واحد، لأن هذه الوحدة تقضي على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلال.
يَشْتَرِي: الفعل (شرى) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشراء. أما إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يدفع له ثمن، ومن ذلك قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (111)} [التوبة]، وحين نتأمل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ: نجد أن هذه عملية تحتاج إلى طلب للشيء المشترى، ثم إلى ثمن يدفع فيه، وليت الشراء لشيء مفيد إنما {لَهْوَ الْحَدِيثِ: وهذه سلعة خسيسة. إذن: هؤلاء الذين يريدون أن يصدوا عن سبيل الله تحملوا مشقة الطلب، وتحملوا غرم الثمن، ثم وصفوا بالخيبة لأنهم رضوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمر منه أن يضعوا هذا في مقابل الحق الذي جاءهم من عند الله على يد رسوله بلا تعب وبلا مشقة وبلا ثمن، جاءهم فضلا من عند الله وتكرما: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (23)} [الشورى]. فأيّ حمق هذا الذي يوصفون به؟
اللهو: هو الشيء الذي لا مصلحة فيه، ويشغلك عن مطلوب منك.
لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟ العلة كما قال الحق سبحانه: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وفرق بين من يشتري اللهو لنفسه يتسلى به، ويقصر ضلاله على نفسه وبين من يقصد أن يضل ويضل غيره؛ لذلك فعليه تبعة الضلالين: ضلاله في نفسه، وإضلاله لغيره.
"لَهْوَ الْحَدِيثِ": لا يقتصر على الغناء والكلام، إنما يشمل الفعل أيضا، وربما كان الفعل أغلب.
"بِغَيْرِ عِلْمٍ": يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع والشراء، فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة، بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها، أما هؤلاء فيشترون الضلال، لذلك يقول الحق عنهم: {فما ربحت تجارتهم (16)} [البقرة].
والسبيل: هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى عنه {اهدنا الصراط المستقيم (6)} [الفاتحة]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الحديث هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم،... ويحتمل أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كلّ أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.
والتعبير ب (لهو الحديث) بدلا من (حديث اللهو) ربّما كان إشارة إلى أنّ الهدف الأساس لهؤلاء هو اللهو والعبث، والكلام والحديث وسيلة للوصول إليه.
ولجملة (ليضلّ عن سبيل الله) مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.
والتعبير ب (بغير علم) إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالّة المنحرفة لا تؤمن حتّى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير، فإنّهم جهلاء يورطون ويشغلون الآخرين بجهلهم. هذا إذا اعتبرنا (بغير علم) وصفاً للمضلّين، إلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبر هذا التعبير وصفاً للضالّين، أي أنّهم يجرّون الناس الجهلة إلى وادي الانحراف والباطل دون أن يعلموا بذلك لجهلهم.