تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

لما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما قال [ الله ]{[22922]} تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] ،

عطف بذكر حال الأشقياء ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب ، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : هو - والله - الغناء .

قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يزيد بن يونس ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء البكري ، أنه سمع عبد الله بن مسعود - وهو يسأل عن هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } - فقال عبد الله : الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها{[22923]} ثلاث مرات{[22924]} .

حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا حُمَيْد الخراط ، عن عمار ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء : أنه سأل ابن مسعود عن قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : الغناء{[22925]} .

وكذا قال ابن عباس ، وجابر ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومكحول ، وعمرو بن شعيب ، وعلي بن بَذيمة .

وقال الحسن البصري : أنزلت هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } في الغناء والمزامير .

وقال قتادة : قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } : والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكنْ شراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق ، وما يضر على ما ينفع .

وقيل : عنى بقوله : { يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } : اشتراء المغنيات من الجواري .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي : حدثنا وَكِيع ، عن خَلاد الصفار ، عن عُبَيْد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن{[22926]} عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ، وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عز وجل عَلَيّ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } .

وهكذا رواه الترمذي وابن جرير ، من حديث عُبَيد الله بن زحر بنحوه{[22927]} ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب . وضَعُفَ {[22928]} علي بن يزيد المذكور .

قلت : علي ، وشيخه ، والراوي عنه ، كلهم ضعفاء . والله أعلم .

وقال الضحاك في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } يعني : الشرك . وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله .

وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله .

وعلى قراءة فتح الياء ، تكون اللام لام العاقبة ، أو تعليلا للأمر القدري ، أي : قُيضوا لذلك ليكونوا كذلك .

وقوله : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزوا ، يستهزئ بها .

وقال قتادة : يعني : ويتخذ آيات الله هزوا . وقول مجاهد أولى .

وقوله تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : كما استهانوا بآيات الله وسبيله ، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر .


[22922]:- زيادة من أ.
[22923]:- في ت: "فرددها".
[22924]:- تفسير الطبري (21/39).
[22925]:- تفسير الطبري (21/39).
[22926]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
[22927]:- سنن الترمذي برقم (3195) وتفسير الطبري (21/40).
[22928]:- في ت: "وفي إسناده"