الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " " من " في موضع رفع بالابتداء . و " لهو الحديث " : الغناء ، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . وهو ممنوع بالكتاب والسنة . والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ، مثل : " واسأل القرية " {[12549]} [ يوسف : 82 ] . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو{[12550]} .

قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى : " وأنتم سامدون " {[12551]} [ النجم : 61 ] . قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ، اسمدي لنا ، أي غني لنا . والآية الثالثة قوله تعالى : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " {[12552]} [ الإسراء : 64 ] قال مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في " الإسراء " {[12553]} الكلام فيه . وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " ) إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعلي ابن يزيد يضعّف في الحديث . قاله محمد بن إسماعيل . قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي .

قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ؛ يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عمر أنه الغناء ، وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وقاله مجاهد . وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء . وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : " فماذا بعد الحق إلا الضلال " {[12554]} [ يونس : 32 ] أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري{[12555]} ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ) ، وقوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " فقوله : ( إذا شغل عن طاعة الله ) مأخوذ من قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك . وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب . وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار ، فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد . حكاه الفراء والكلبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه . ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأول ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها ، على حد قوله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " {[12556]} [ البقرة : 16 ] ؛ اشتروا الكفر بالإيمان ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه . قتادة : ولعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن سماعه شراؤه .

قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب ؛ للحديث المرفوع فيه ، وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة : ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما : على هذا المنكب [ والآخر على هذا المنكب ]{[12557]} فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ) . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بكسر المزامير ) خرجه أبو طالب الغيلاني . وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف ) . وفي حديث أبي هريرة : ( وظهرت القيان والمعازف ) . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك{[12558]} يوم القيامة ) . وروى أسد بن موسى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال : بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض{[12559]} المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني ) . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله ، وزاد بعد قوله ( المسك : ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي ، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ) . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : ( قراء أهل الجنة ) خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك . ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ) .

ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء .

الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة{[12560]} وسلمة بن الأكوع . فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات{[12561]} والطار والمعازف والأوتار فحرام .

قال ابن العربّي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو . وفي اليراعة{[12562]} تردد . والدف مباح . [ الجوهريّ : وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة ]{[12563]} . قال القشيريّ : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ) فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار . وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .

الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد . وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبريّ قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، وهو مذهب سائر أهل المدينة ، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا . وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان{[12564]} مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بني ! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فاطلب العلوم الدينية ، فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا . قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ، إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب الشافعي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ، قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ، ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ، ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق .

وهذا دليل على أن الغناء محظور ؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : ( أرِقْها ) . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى . قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالسواد الأعظم . ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص .

قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله : " وعنده مفاتح الغيب " {[12565]} [ الأنعام : 59 ] وحسبك .

الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله . وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة . قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ؛ ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة . وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها .

الخامسة- قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " قراءة العامة بضم الياء ، أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم ، أي ليضل هو نفسه . " ويتخذها هزوا " قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على " من يشتري " ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : " ويتخذها " بالنصب عطفا على " ليضل " . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : " بغير علم " والوقف على قوله : " هزوا " ، والهاء في " يتخذها " كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر . " أولئك لهم عذاب مهين " أي شديد يهينهم قال الشاعر :

ولقد جزعت إلى النصارى بعدما*** لَقِيَ الصليب من العذاب مهينا{[12566]}


[12549]:راجع ج 9 ص 245 فما بعد.
[12550]:كذا في جميع نسخ الأصل. وفي كتاب النحاس:" أو يكون التقدير: لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو". وفي العبارتين غموض، ولعل العبارة هكذا: أو يكون التقدير أنه لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها لأجل لهوها كان كأنه اشترى اللهو.
[12551]:راجع ج 17 ص 121 فما بعد.
[12552]:راجع ج 10 ص 290.
[12553]:راجع ج 10 ص 290.
[12554]:راجع ج 8 ص 335 فما بعد.
[12555]:في آخر كتاب الاستئذان.
[12556]:راجع ج 1 ص 210.
[12557]:ما بين المربعين ساقط من الأصل المطبوع.
[12558]:الآنك: الرصاص.
[12559]:في ج، ش: "رياض الجنة".
[12560]:هو عبد أسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.
[12561]:الشبابة (بالتشديد): قبة الزمر، وهي مولدة.
[12562]:اليراعة: مزمار الراعي.
[12563]:ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
[12564]:لفظة: "كان" ساقطة من ج.
[12565]:راجع ج 7 ص 3.
[12566]:هذا البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل، مطلعها: أمسيت إذ رحل الشباب حزينا *** ليت الليالي قبل ذاك فنينا.