اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } لما بين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره{[42332]} . قال مقاتل والكلبي : نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ{[42333]} فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث{[42334]} بها قريشاً ويقول : إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث «رُسْتم ، واسفِنْديَار » ، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال مجاهد : يعني شراء القِيَانِ{[42335]} والمُغَنِّينَ ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ أو ذَا لَهْوِ الحَدِيث ، قال عَليه ( الصلاة و ) السلام : «لا يحل ( تعليم ) المغنيات ولا بيعهن{[42336]} وأثمانهن حرام » وفي مثل هذا نزلت الآية { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت قال النحويون قوله : «لَهْوَ الحديث » من باب الإضافة بمعنى «مِنْ » ؛ لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب{[42337]} ، وهذا أبلغ من حذف المضاف{[42338]} .

قوله : «لِيُضِلَّ » ( قرأه ابن{[42339]} كثير وأبو عمرو ) بفتح حرف المضارعة ، والباقون{[42340]} بضمه لمن «أَضَلَّ غَيْرَهُ » فمفعوله محذوف ، وهو مستلزم{[42341]} للضلال لأن من «أَضَلَّ » فقد «ضَلَّ » من غير عكس ، وقد تقدم ذلك في إبراهيم{[42342]} . قال الزمخشري هنا : فإن{[42343]} قلت : القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : معنيان :

أحدهما : ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ{[42344]} ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه .

الثاني : أن موضع «ليضل » ( موضع ){[42345]} من قِبَلِ أنَّ من «أَضَلَّ » كان ضالاًّ لا محالة ، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ .

فصل :

روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا : ( لهو{[42346]} ) الحديث هو الغناء{[42347]} ، والآية نزلت فيه ، ومعنى قوله : { مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، وقال ابن جريح{[42348]} : هو الطبل{[42349]} ، وقال الضحاك : هو الشرك{[42350]} ، وقال قتادة : حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ{[42351]} .

قوله : «بغير علم » حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ .

قوله : «وَيَتَّخِذَهَا » قرأ الأخوان وحفص بالنصب أي بنصب{[42352]} الذَّال عطفاً على «لِيُضِلَّ » وهو علة{[42353]} كالذي قبله .

والباقون بالرفع عطفاً على «يَشْتَرِي » فهو صلة ، وقيل : الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة ، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ ، أو الأحاديث الدال عليها الحَدِيثُ{[42354]} لأنه اسم جنس{[42355]} .

قوله : «أولَئِكَ لَهْمْ » حمل أولاً على لفظ «مَنْ » فأفرد ( ثم ){[42356]} على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ } وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ }{[42332]} . قال أبو حيان : ولا نعلم جاء في القرآن{[42333]} ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين{[42334]} ، قال شهاب الدين : ووجد{[42335]} غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة . وقوله : «عَذَابٌ مُهِينٌ » أي دائم .


[42332]:في "ب" ويشتغلون بذلك.
[42333]:انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6/315 وأسباب النزول للواحدي عن الكلبي ومقاتل بدون سند 197 وأسباب النزول للسيوطي وقد قال السيوطي: إنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
[42334]:في "ب" ويعلم بها قريشاً.
[42335]:انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6/315 والطبري 1/41 والدر المنثور للسيوطي 6/504.
[42336]:الحديث أورده السيوطي في الدر المنثور 6/504 عن أبي أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلموهنّ ولا خير في أثمانهن.
[42337]:كان من المفروض (فهو كباب ساج وجبة خز) وقيل: هو على حذف مضاف أي ذوات لهو حديث. انظر: الكشاف 3/229 ويكون المراد من هذا بيان الجنس الذي منه المضاف كما بين ذلك الزمخشري.
[42338]:أي: من تقديرنا: "ذات لهو" أو "ذي لهو".
[42339]:هذه الفقرة التي بين القوسين زيادة من "ب".
[42340]:انظر: الإتحاف 272 و 349 والكشاف بدون نسبة 3/230 والنشر 2/346 وتقريبه ص 159 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/194 وإعراب القرآن للنحاس 3/282.
[42341]:في "ب" وهو ملتزم.
[42342]:يقصد قوله تعالى: {جعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله} وهي الآية "30" من نفس السورة.
[42343]:انظر: الكشاف 3/230.
[42344]:هكذا هي هنا وفي الكشاف وما في "ب" يصد.
[42345]:ساقط من "ب" وهي في الكشاف.
[42346]:ساقط من "ب".
[42347]:نقله في زاد المسير 6/316 والقرطبي 14/51.
[42348]:نقله في زاد المسير 6/316.
[42349]:السابق.
[42350]:معاني القرآن للزجاج 4/194.
[42351]:السابقان.
[42352]:انظر: السبعة 512 ومعاني القرآن للفراء 2/327 وحجة ابن خالويه 284 والإتحاف 350 والنشر 2/346.
[42353]:في "ب" علمه وهو تحريف.
[42354]:في "ب" الأحاديث وهو خطأ لأن المقصود المفرد.
[42355]:نقله مكي في الكشف عن وجوه القراءات 2/178 و 188 وابن الأنباري في البيان في غريب إعراب القرآن، 2/253، 254.
[42356]:سقط من "ب".