البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة ، وأنه هدى ورحمة ، وأن متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشترياً له وباذلاً فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله .

ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشاً بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثاً .

وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية تغني بالسب ، وبهذا فسر { لهو الحديث } : المعازف والغناء .

وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « شراء المغنيات وبيعهم حرام » ، وقرأ هذه الآية .

وقال الضحاك : { لهو الحديث } : الشرك .

وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من آلة الغناء .

وقال عطاء : الترهات .

وقيل : السحر .

وقيل : ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب .

وقال أيضاً : ما شغلك عن عبادة الله ، وذكره من السحر والأضاحيك والخرافات والغناء .

وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه .

فإن أريد به ما يقع عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر ؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي من يشتري ذات لهو الحديث .

وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من ، لأن اللهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . انتهى .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { ليضل } بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها .

قال الزمخشري : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدق عنه ، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه .

والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف .

فإن قلت : قوله بغير علم ما معناه ؟ قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها . انتهى .

و { سبيل الله } : الإسلام أو القرآن ، قولان .

قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافاً إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : { ليضل } إلى آخره .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : { ويتخذها } ، بالنصب عطفاً على { ليضل } ، تشريكاً في الصلة ؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفاً على { يشتري } ، تشريكاً في الصلة .

والظاهر عود ضمير { ويتخذها } على السبيل ، كقوله : { ويبغونها عوجاً } قيل : ويحتمل أن يعود على { آيات الكتاب } .

وقال تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث .

وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده { ليضل عن سبيل الله } : أي دينه .

انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص .