فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

{ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } محل { ومن الناس } الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة ، وخبره { من يشتري لهو الحديث } ، و{ من } إما موصولة أو موصوفة ، و { لهو الحديث } كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر ، والإضافة بيانية . وقيل المراد : شراء القينات المغنيات والمغنين ، فيكون التقدير : ومن يشتري أهل لهو الحديث . قال الحسن لهو الحديث : المعازف والغناء . وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك . قال القرطبي : إن أولى ما قيل في هذا الباب هو : تفسير لهو الحديث بالغناء ، قال : وهو قول الصحابة والتابعين ، واللام في { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } للتعليل . قرأ الجمهور بضم الياء من { ليضل } أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق ، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد ، وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء . أي ليضل هو في نفسه . قال الزجاج : من قرأ بضم الياء ، فمعناه : ليضل غيره ، فإذا أضل غيره فقد ضل هو ، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه : ليصير أمره إلى الضلال ، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة ، فإنه يصير أمره إلى ذلك ، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي .

قال الطبري : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري . قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها ؟

قلت : قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له ، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها ، وسميتها : [ إبطال دعوى الإجماع ، على تحريم مطلق السماع ] فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها .

ومحل قوله { بغير علم } النصب على الحال ، أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه ، أو بحال ما ينفع من التجارة ، وما يضر ، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } قرأ الجمهور برفع : { يتخذها } عطفاً على { يشتري } فهو من جملة الصلة . وقيل الرفع على الاستئناف والضمير المنصوب في { يتخذها } يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها ، والأول أولى . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش { ويتخذها } بالنصب عطفاً على { يضل } ، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل ، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم ، والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزواً ، أي مهزوءاً به ، والسبيل يذكر ويؤنث ، والإشارة بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها ، والعذاب المهين : هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً .

/خ11