فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

{ ومن الناس من يشتري } { من } إما موصولة ، ومفرد لفظا جمع معنى ، وروعي لفظها أولا في ثلاثة ضمائر ، يشتري ، ويضل ، ويتخذ . وروعي معناها ثانيا في موضعين ، وهما : أولئك لهم ، ثم رجع إلى مراعاة اللفظ في خمسة ضمائر ، وهي وإذا تتلى عليه الخ .

{ لهو الحديث } وهو كل باطل يلهي ، ويشغل عن الخير ، ومن الغناء والملاهي ، والأحاديث المكذوبة ، والأضاحيك ، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها ، والخرافات ، والقصص المختلفة ، والمعازف والمزامير ، وكل ما هو منكر والإضافة بيانية ، أي : اللهو من الحديث ، لأن اللهو يكون حديثا وغيره ؛ فهو كثوب خز ، وهذا أبلغ من حذف المضاف . وقيل : المراد شراء القينات المغنيات ، والمغنيات ، والمغنين . فيكون التقدير من يشتري أهل لهو الحديث ، قال الحسن : لهو الحديث : المعازف والغناء . وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك . وفيه بعد ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر ، والمعنى : يختارون حديث الباطل على حديث الحق .

قال القرطبي : إن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء قال : وهو قول الصحابة والتابعين . قال ابن عباس : لهو الحديث باطله ، وهو في النضر بن الحرث بن علقمة : اشترى أحاديث الأعاجم ، وأخبار الأكاسرة ، وصنيعهم في دهرهم ، وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ، ويحدث بها قريشا ، ويكذب القرآن . وعنه قال : هو الغناء وأشباهه . أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، وعنه قال : الجواري الضاربات ، وعن ابن مسعود قال : هو والله الغناء ، وفي لفظ قال : هو الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عباس والحسن وعكرمة ، وسعيد بن جبير : قالوا لهو الحديث هو الغناء ، والآية نزلت فيه . وقيل : هو كل لهو ولعب ؛ والمعنى : يستدل ويختار الغناء ، والمزامير ؛ والمعازف على القرآن .

وأخرج أحمد والترمذي ، وابن ماجة ، والطبراني ، والبيهقي ، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا خير في تجارة فيهن ؛ وثمنهن حرام " . في مثل هذا أنزلت هذه الآية . وفي إسناده عبيد{[1369]} بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمان ، وفيهم ضعف .

وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم القينة وبيعها . وثمنها ، وتعليمها ، والاستماع إليها ثم قرأ : ومن الناس من يشتري لهو الحديث " .

وأخرج البيهقي في السنن ، وابن أبي الدنيا ، وابن مردويه عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الغناء ينبت النفاق ، كما ينبت الماء البقل " . وروياه عنه موقوفا . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن مردويه ، وعن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شياطين يجلسان على منكبيه ، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك " .

وأخرج الترمذي عنه مرفوعا نحو ؛ وفي الباب أحاديث في كل حديث منها منال .

وقال ابن مسعود : لهو الحديث ، الرجل يشتري جارية تغنيه ليلا ونهارا وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في لهو الحديث : " إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل " ، أخرجه ابن مردويه .

وعن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه ، ثم عدل عن الطريق ، فلم يزل يقول : يا نافع أتسمع ؟ قلت : لا ، فأخرج أصبعيه من أذنيه . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع . وعن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نعمة ، لهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شياطينه " .

{ ليضل عن سبيل الله } اللام للتعليل ، قرئ بضم الباء ، أي : ليضل غيره عن طريق الهدى ، ومنهج الحق . وقرئ بفتح الياء ، أي : ليضل هو في نفسه ويدوم ، ويستمر ، ويثبت على الضلال ، وهما سبعيتان . قال الزجاج : من قرأ بضم الياء فمعناه ليضل غيره ، فإذا أضل غيره فقد ضل هو ، ومن قرأ بالفتح فمعناه ليصير أمره إلى الضلال ، وهو إن لم يكن يشتري الضلالة ، فإن أمره إلى ذلك ، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ، ويؤيد هذا سبب النزول ، قال ابن عباس : سبيل الله : قراءة القرآن ، وذكر الله ، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية . قال الطبري : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء ، والمنع منه ، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري . قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ، إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها ؟

وقال في نيل الأوطار بعد ذكر الاختلاف فيه مع الأدلة : لا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام ، لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات ، كما صرح به الحديث الصحيح ، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ولا سيما إذا كان مشتملا على ذكر القدود ، والخدود ، والجمال ، والدلال ، والهجر ، والوصال ومعاقرة العقار ، وخلع العذار ، والوقار ، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلوا عن بلية ، وإن من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف ، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول ، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول ، نسأل الله السداد والثبات .

قلت : وقد جمع الشوكاني رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء ، وما استدل المحللون له والمحرمون له ، وحقق هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها ، وتدبر معانيها ، إلى النظر في غيرها ، وسماعها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع . ولنا أيضا بحمد الله عز وجل جواب بسيط في جواز الغناء ، وعدم جوازه بالفارسية ، ذكرناه في كتابنا هداية السائل ، فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إلى ذلك .

{ بغير علم } أي حال كونه عالم بحال ما يشتريه ، أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر ، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض ، أو يفعله عن جهل ، أو جهلا منه بما عليه من الوزر ، ونحوه قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } أي : لصواب التجارة .

{ ويتخذها } قرأ حمزة والأعمش بالنصب ، عطفا على يضل ، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل ؛ فيكون المعنى على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم ؛ والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله ، واتخاذ السبيل { هزوا } أي : مهزوا به . والسبيل يذكر ويؤنث . وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على يشتري ، فهو من جملة الصلة ؛ وقيل : الرفع على الاستئناف ، والضمير المنصوب يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها ، والأول أولى { أولئك } إشارة إلى { من } والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها كما تقدم { لهم عذاب مهين } هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهينا .


[1369]:عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، والأعمش وكأنه مات شابا، وروى عنه الكبار: يحيي ابن سعيد الأنصار ي، ويحيي بن أيوب المصري قال محمد بن يزيد المستعلي: سألت أبا مسهر عنه فقال: صاحب كل معضلة، وأن ذلك على حديثه لبين. وروى عثمان بن سعيد عن يحيى قال: حديثه عندي ضعيف. وروى عباس عن يحيى: ليس بشيء. وقال ابن المديني. منكر الحديث، وقال الدارقطني. ليس بالقوي، وشيخه علي متروك. وقال ابن حبان يروي الموضوعات على الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد يأتي بالطامات وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمان –لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم أهـ. قلت: وهذا الخبر اجتمع فيه الثلاثة، وإن كان قد روي عن أبي زرعة الرازي أنه صدوق. المطيعي.