الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و { لَهْوَ الحديث } نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام ، وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار ، وما أشبه ذلك . وقيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وكان يتجر إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن . وقيل : كان يشتري المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحلُّ بيعُ المغنياتِ ولا شراؤُهن ولا التجارةُ فيهنّ ولا أثمانهنّ " وعنه صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ رجلٍ يَرفعُ صوتَه بالغناءِ إلا بَعث اللَّهُ عليهِ شيطانَين : أحدُهما على هذا المنكبِ والآخرُ على هذا المنكبِ ، فلا يزالان يضربانهِ بأَرجلِهِما حتى يكونَ هو الذي يسكتُ " ، وقيل : الغناءُ منفدة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب .

فإن قلت : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث ؟ قلت : معناها التبيين ، وهي الإضافة بمعنى من ، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه ، كقولك : صفّة خز وباب ساج . والمعنى : من يشتري اللهو من الحديث ؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فبين بالحديث . والمراد بالحديث . الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث : " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من » التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . وقوله : { يَشْتَرِى } إما من الشراء ، على ما روى عن النضر : من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان . وإما من قوله : { اشتروا الكفر بالإيمان } [ آل عمران : 177 ] أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وعن قتادة : اشتراؤه : استحبابه ، يختار حديث الباطل على حديث الحق . وقرىء : { لِيُضِلَّ } بضم الياء وفتحها . و { سَبِيلِ الله } دين الإسلام أو القرآن .

فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو : أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمدّه ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه . والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف .

فإن قلت : ما معنى قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق .

ونحوه قوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] أي : وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها : وقرىء { وَيَتَّخِذَهَا } بالنصب والرفع عطفاً على يشتري . أو ليضل ، والضمير للسبيل ؛ لأنها مؤنثة ، كقوله تعالى : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } [ الأعراف : 86 ] . { ولى مُسْتَكْبِراً } زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأساً : تشبه حاله في ذلك حال .