معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } ، يقضيه وحده ، { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } ، معناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه ، وهذا رد عل النضر بن الحارث فإنه كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللات والعزى .

قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم } ، يعنى : الذي فعل هذه الأشياء ربكم لا رب لكم سواه ، { فاعبدوه أفلا تذكرون } ، تتعظون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

ثم ساق - سبحانه - من مظاهر قدرته ، ما يبطل تعجبهم فقال - تعالى - :

{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات . . . }

قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه - تعالى - أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم . . كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين :

أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهي .

والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما .

فلا جرم أنه - سبحانه - ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين .

أما الأول : وهو إثبات الألوهية فبقوله - تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض . . . } .

وأما الثاني : فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً . . . } .

فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن . ونهاية الكمال .

والمعنى : إن ربكم ومالك أمركم - الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الذي الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات .

فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون .

قال الآلوسى : " وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام ، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه " .

وقال بعض العلماء : " ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة ، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها ، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية .

وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصرد لإدراكه إلا هذا المصدر ، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه ، والمقصود بذكرها هو الإِشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه " .

وقال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة .

ولكنه - سبحانه - خلقهن في ستة أيام ، لكي يعلم عباده التثبت والتأني في الأمور .

وقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته - سبحانه - .

والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار ، ومنه قوله - تعالى - { واستوت عَلَى الجودي } أي : استقرت ، ومن معانيه - أيضاً - الاستيلاء والقهر والسلطان ، ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق أي : استولى عليه .

وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا " .

وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات .

أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عمالا يليق به فيجب الإِيمان بها كام وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله - تعالى - .

فعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت في تفسر قوله - تعالى { الرحمن عَلَى العرش استوى } الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإِقرار به من الإِيمان ، والجحود به كفر .

وقال الإِمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإِيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .

وقال الإِمام الرازي : " إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه " .

وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ ، لأنه - سبحانه - مخالف للحوادث ، ووجوب حملها على ما يليق به - سبحانه - .

وعليه فإن الاستواء هنا : كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر } استنئاف مسوق لتقرير عظمته - سبحانه - ولبيان حكمة استوائه على العرش .

والتدبير معناه : النظر في أدبار الأموار وعواقبها لتقع على الوجه المحمود .

والمراد به هنا : ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى .

أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما ، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله : { يدبر } للإِشارة إلى تجدد التدبير واستمراره ، إذ أنه - سبحانه - لا يهمل شئون خلقه .

وقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه .

والشفيع مأخوذ من الشفيع وهو ضم الشيء إلى مثله ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده .

والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال . أي : ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه - سبحانه - .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } واسم الإِشارة في قوله - سبحانه - { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } يعود إلى ذات الله - تعالى - الموصوفة بتلك الصفات الجليلة .

أى : ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك .

ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بالتذكر فقال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أتعلمون أن الله - تعالى - هو خالقكم وهو القادر على كل شيء ، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول نبيكم - صلى الله عليه وسلم - : وإيثار { تَذَكَّرُونَ } على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى عمق في التفكير والبحث والتأمل . إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله - تعالى - وبالغ حكمته ، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

1

( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ? إليه مرجعكم جميعا ، وعد الله حقا ، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون ، إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) .

وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة . قضية الربوبية . . فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين . فهم كانوا يعتقدون بوجود الله - لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف - ولكنهم كانوا يشركون مع الله أربابا يتوجهون إليهم بالعبادة .

إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله .

والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية - كالذي جد فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية - إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر :

إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن . وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل . وقدر اختلاف الليل والنهار . . هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس ، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرهاتدبر الواعي المدرك . . إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه . . أليست قضية منطقية حية واقعية ، لا تحتاج إلى كد ذهن ، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة ، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان ? !

إن هذا الكون الهائل . سماواته وأرضه . شمسه وقمره . ليله ونهاره . وما في السماوات والأرض من خلق ، ومن أمم ومن سنن ، ومن نبات ومن طير ومن حيوان ، كلها تجري على تلك السنن . .

إن هذا الليل الطامي السادل الشامل ، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح . وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي . وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء . وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائى ساكنة وهي تدب في لطف . وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال . وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة . وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق . وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلغ ، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله . .

إن هذا الحشد من الصور والظلال ، والأنماط والأشكال ، والحركات والأحوال ، والرواح والذهاب ، والبلى والتجدد ، والذبول والنماء ، والميلاد والممات ، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار . .

إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر ، حين يستيقظ القلب ، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه . . والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات .

( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) . .

إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق ، الذي خلق السماوات والأرض . خلقها في تقدير وحكمه وتدبير :

( في ستة أيام ) .

حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله .

ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة ، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها . إنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية . .

وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر . فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه . والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام ، الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه .

( ثم استوى على العرش ) . .

والاستواء على العرش . كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة ، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني ، على طريقة القرآن في التصوير [ كما فصلنا هذا في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن ] .

و( ثم )هنا ليست للتراخي الزماني ، إنما هي للبعد المعنوي . فالزمان في هذا المقام لا ظل له . وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت . فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمانوالمكان . لذلك نجزم بأن( ثم )هنا للبعد المعنوي ، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم . لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات ، وعن مقتضيات الزمان والمكان .

( يدبر الأمر ) . .

ويقدر أوائله وأواخره ، وينسق أحواله ومقتضياته ، ويرتب مقدماته ونتائجه ، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره .

( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) .

فالأمر كله له ، والحكم كله إليه . وما من شفعاء يقربون إلى اللّه زلفى . وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة ، وفقاً لتدبيره وتقديره ، واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح ، لا بمجرد التوسل بالشفعاء . . وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله !

ذلكم اللّه الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه . . ( ذلكم الله ربكم ) . . الخليق بالربوبية( فاعبدوه )فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه . . ( أفلا تذكرون )? . . فالأمر من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة . .

ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض :

( ذلكم الله ربكم فاعبدوه ) . .

وقد قلنا : إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين ، فقد كانوا يعترفون بأن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء . . ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته . فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم . . والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده ؛ فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له ؛ ولا يحكمون في أمرهم كله غيره . . وهذا معنى قوله تعالى :

( ذلكم الله ربكم فاعبدوه ) . .

فالعبادة هي العبودية ، وهي الدينونة ، وهي الاتباع والطاعة ، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها ، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية .

وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية . ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان ؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية ؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية . . أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره ، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه . .

كذلك ينحسر معنى " العبادة " في الجاهلية ، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر . ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده ، فقد عبدوا الله وحده . . بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد . و " عبد " تفيد ابتداء " دان وخضع " . وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها .

والجاهلية ليست فترة من الزمان ، ولا مرحلة من المراحل . إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو ، ومعنى العبادة . هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله ! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض ، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين ، ويؤدون الشعائر للّه ، بينما أربابهم غير اللّه ، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته ، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه ، ويتبعون ما يشرعه لهم ، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله [ ص ] " . . . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . [ في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي ] .

ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى : ( قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا . قل : آلله أذن لكم أم على الله تفترون ? ) . .

وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله :

( ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون ! ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون . كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ]{[14055]} ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت سعد{[14056]} الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء .

وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره .

وهذا غريب .

{ يُدَبِّرُ الأمْرَ } أي : يدبر أمر الخلائق ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلّظه{[14057]} المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين{[14058]} ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] . { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] {[14059]} .

وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ]{[14060]} أنه قال حين نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } لقيهم ركب عظيم{[14061]} [ لا يرون إلا أنهم ]{[14062]} من العرب ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا . من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .

[ وقوله ]{[14063]} { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } كقوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] .

وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14064]} أي : أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14065]} أي : أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 86 - 87 ] {[14066]} ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها .


[14055]:- زيادة من أ.
[14056]:- في ت : "سعدا".
[14057]:- في ت ، أ : "ولا يغلطه".
[14058]:- في ت : "+بالألجاج الملجين".
[14059]:- في ت : "يسقط".
[14060]:- زيادة من ت ، أ.
[14061]:- في ت : "لقي - ثم بياض - ركبا عظيما".
[14062]:- زيادة من ت.
[14063]:- زيادة من ت ، أ.
[14064]:- في ت : "يتذكرون".
[14065]:- في ت : "يتذكرون".
[14066]:- في ت : "الله".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وإعلام بصفاته ، والخطاب بها لجميع الناس ، و { خلق السماوات والأرض } هو على ما تقرر أن الله عز وجل خلق الأرض { ثم استوى } إلى السماء وهي دخان فخلقها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقوله { في ستة أيام } قيل هي من أيام الآخرة ، وقال الجمهور ، وهو الصواب : بل من أيام الدنيا .

قال القاضي أبو محمد : وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الله المخلوقات ( إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا ) إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة ، والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد ، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت{[6008]} وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مما لا يوصل إلى تعليله ، وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك ، والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدراً وهو أعلم بوجه الحكمة . وقوله { ثم استوى على العرش } قد تقدم القول فيه في { المص } [ الأعراف : 1 ] وقوله { يدبر الأمر } يصح أن يريد ب { الأمر } اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد { الأمر } الذي هو مصدر أمر يأمر ، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علماً ، وقال مجاهد : { يدبر الأمر } معناه يقضيه وحده ، وقوله { ما من شفيع الا من بعد إذنه } رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها{[6009]} ، وقوله { ذلكم } إشارة الى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه ، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال { أفلا تذكرون } أي فيكون التذكر سبباً للاهتداء ، واختصار القول في قوله { ثم استوى على العرش } [ إما ] أن يكون { استوى } بقهره وغلبته وإما أن يكون { استوى } بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان ، فقد قيل في قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق*** من غير سيف ودم مهراق

إنه بيت مصنوع . وإما أن يكون فعل فعلاً في العرش سماه { استوى } واستيعاب القول قد تقدم{[6010]} .


[6008]:- عبارة ابن عطية هنا تدل على أنه يشك في صحة هذه الرواية، بدليل قوله: "ووقع في بعض الأحاديث"، والحقيقة المشهورة عند العلماء أن الله بدأ الخلق يوم الأحد، وأن مدة الخلق كانت ستة أيام بنص القرآن الكريم. ومعنى ذلك أن هذه الرواية تتعارض مع الآية فلا بد من إسقاطها أو تأويلها، ولا يمنع من ذلك ورودها في صحيح مسلم غفر الله لنا وله، وقد تكلم كثير من الحفاظ في هذا الحديث. والله أعلم.
[6009]:- قال بعض العلماء: فماذا إذا ادّعوا الإذن لها وقالوا: إنها تشفع بعد أن يؤذن لها، والآية لا تنفي الإذن؟ يقال: ولن يأذن لها لأنها ليست أهلا للشفاعة.
[6010]:- في الآية (54) من سورة (الأعراف). واللغويون لهم آراء كثيرة في معنى (استوى) أشهرها أنه بمعنى: استولى وظهر، وقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى؟ فقال: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"