قوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهم منكم .
قوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } ، وهذا نسخ التوارث بالهجرة ، ورد الميراث إلى ذوي الأرحام .
قوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله عز وجل ، وقيل : أراد بكتاب الله القرآن ، يعني : القسمة التي بينها في سورة النساء .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين في العهد النبوى فقال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ . . } .
أى : والذين آمنوا من بعد المؤمنين السابقين إلا الإيمان والهجرة ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع المهاجرين السابقين والأنصار من أجل إعلاء كملة الله ، فأولئك الذين هذا شأنهم { مِنكُمْ } أى : من جملتكم - أيها المهاجرون والأنصار في استحقاق الموالاة والنصرة ، واستحقاق الأجر من الله ، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم ، لأنه لا يتساوى السابق في الإِيمان والهجرة والجهاد مع المتأخر في ذلك .
قالوا : والمراد بهذا القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، أهل الهجرة الثانية التي وقعت بعد الهجرة الأولى ، وقيل المرد بهذا القسم المهاجرون بعد صلح الحديبية ، أو بعد غزوة بدر ، أو بعد نزول هذه الاية ، فيكون الفعل الماضى { آمَنُواْ } وما بعده بمعنى المستقبل .
وقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله . . } بيانا لحقوق الأقارب بالنسب .
والأرحام جمع رحم ، وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد في بطنها ، وسمى به الأقارب ، لأنهم في الغالب من رحم واحدة وأولا الأرحام في اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .
أى : وذوو القرابة بعضهم أولى في التوارث وفى غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أى : في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام في هذه الآية وغيرها .
قال الآلوسى : " أخرج الطيالسى والطبرانى وغيرها عن ابن عباس قال : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه ، وورث بعضعه من بعض حتى نزلت هذه الآية فتكروا ذلك وتوارثوا بالنسب .
أى أن هذه الآية الكريمة نسخت ما كان بين المهاجرين والانصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة .
وقوله : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذييل ختمت به السورة الكريمة لحض المؤمنين على التمسك بما اشتملت عليه من آداب وتشريعات وأحكام لينالوا رضاه وثوابه .
أى : إن الله - تعالى - مطلع على كل شئ مما يدور ويجرى في هذا الكون ، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المهاجرين والأنصار مدحا عظيما ، كما مدحت المؤمنين من بعدهم ، وحضت على الجهاد في سبيل الله ، وأمرت بالوفاء بالعهود ، وبالوقوف صفا واحدا في وجه الكفار حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
وبعد : فهذا ما وفق الله إليه في تفسيره سورة الأنفال ، أو سورة بدر - كما سماها ابن عباس - لأنها تحدثت باستفاضة عن أحداث هذه الغزوة وعن أحوال المشتركين فيها ، وعن باشارت النصر التي تقدمتها وصاحبتها وعن غنائمها وأسراها .
كما تحدثت عن صافت المؤمنين الصادقين ، وعن الأقوال والأعمال التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها لينالوا رضا الله ونصره ، وعن رذائل المشركين ومسالكهم القبيحة لمحاربة الدعوة الاسلامية ، وعن المبادئ التي جيب أن يسير عليهم المسلمون في حربهم وسلمهم ، وعن سنن الله في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل ، والتى من أهمها :
أنه - سبحانه - لا يسلب نعمة عن قوم إلا بسبب معاصيهم وتنكبهم الطريق القويم ، قال - تعالى - :
{ ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وأنه - سبحانه - قد جعل العاقبة الحسنة للمؤمنين ، والعاقبة السيئية للفاسقين ، وأخبر المنمحرفين عن صراطه بأنه سيغفر لهم ما سلف من خطاياهم متى أقلعوا عنها ، وأخلصوا له العبادة .
قال - تعالى - { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وختاما : نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا للمداومة على خدمة كتابه ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يتم لنا نورنا ويغفر لنا إنه على كل شئ قدير .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين ، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي :
( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) . .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ؛ حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته ، وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله [ ص ] غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ؛ لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام ، وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . . فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ؛ وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض ، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها ، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية ، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ؛ ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ؛ كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة ، وتكاليفها الخاصة . . قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم ، في كل صوره وأشكاله ، وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية ، اللازمة لعملية البناء الأولى ، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام :
( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . . )
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام ، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية ، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . . إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ؛ ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ؛ فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة ، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام ، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . . وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ؛ وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر ، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ؛ ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ؛ ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز " إنسانية الإنسان " وتقويتها وتمكينها ، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه . .
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب " الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ؛ ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه " الصفات " مع الحيوان ومع المادة له " خصائص " تميزه وتفرده ؛ وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب " الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا ، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز " الإنسان " وتفرده بين الخلائق ؛ فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي ، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة ، إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في " الإنسان " من " خصائص " . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب ، ولا اللغة ، ولا الأرض ، ولا الجنس ، ولا اللون ، ولا المصالح ، ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع ، وإلى اهتمامات القطيع ، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع ! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده ، ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ؛ كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله ، ومصيره ومصير الكون من حوله ؛ وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى ، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق ، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ؛ والذي يقرر " إنسانيته " في أعلى مراتبها ؛ حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ؛ يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً ، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ؛ ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ؛ ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد ، لم يكن له فيها اختيار ، ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها ، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد ، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ؛ ومجال " الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج ، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني ، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ؛ وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ؛ فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه ، أو الأرض التي ولد فيها ، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز " خصائص الإنسان " في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ؛ وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ؛ وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ؛ وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما " عربية " إنما كانت دائماً " إسلامية " . ولم تكن يوماً ما " قومية " إنما كانت دائماً " عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب ، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ؛ وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ؛ وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ؛ وتبرز فيها " إنسانيتهم " وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ؛ ولغات متعددة ، وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة " إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ؛ يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها : الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية . . وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة " إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة " الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة " الأشراف " ؛ وذلك تجمع على قاعدة طبقة " الصعاليك " [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن " المطالب الأساسية " للإنسان هي " الطعام والمسكن والجنس " - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام ! ! !
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق . . وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ؛ ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ؛ ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه " البهائم " من الحظيرة والكلأ ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه " الناس " !
وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية ، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة ؛ وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها ؛ لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة . . خصيصة الإنسان العليا . .
ولكن الله غالب على أمره . . وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء . . وسيكون ما يريده الله حتماً . . وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها . والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق . وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق ، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام . .
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه .
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث الآخر : " من أحب قوما حُشر معهُم " {[13215]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " . قال شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
تفرد به أحمد من هذين الوجهين{[13216]}
وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص . ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم .
آخر [ تفسير ]{[13217]} سورة " الأنفال " ، ولله الحمد والمنة ، وعليه{[13218]} [ الثقة و ]{[13219]} التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وقوله تعالى : { وجاهدوا معكم } لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر ، قوله { فأولئك منكم } كذلك ، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم{[5495]} وابن أخت القوم منهم »{[5496]} ، وقوله { وأولو الأرحام }{[5497]} إلى آخر السورة ، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري ، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجراً معه ، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله : إن الآية ليست في المواريث ، وهذا ِفرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة ، وقوله { في كتاب الله } ، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله ، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ ، و { عليم } صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام ، كمل تفسير سورة الأنفال .