معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

قوله تعالى : { يكاد البرق } . أي يقرب ، يقال : كاد يفعل إذا قرب ولم يفعل .

قوله تعالى : { يخطف أبصارهم } . يختلسها ، والخطف استلاب بسرعة .

قوله تعالى : { كلما } . كل حرف جملة ضم إلى ما الجزاء فصار أداة للتكرار ومعناهما متى ما .

قوله تعالى : { أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } . أي وقفوا متحيرين ، فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة وسواد في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها أن الساري لا يمكنه المشي فيها ، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هوله ، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدة توقده ، فهذا مثل ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه ، فالمطر القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان ، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك ، والرعد ما خوفوا به من الوعيد ، وذكر النار ، والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة . فالكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه لأن الإيمان عندهم كفر والكفر موت ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) أي القرآن يبهر قلوبهم . وقيل هذا مثل ضربه الله للإسلام ، فالمطر الإسلام ، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن ، والرعد : ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة ، والبرق ما فيه من الوعد ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ) يعني أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذراً من الهلاك ، ( والله محيط بالكافرين ) جامعهم ، يعني لا ينفعهم هربهم لأن الله تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم ، ( يكاد البرق ) يعنى دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة ، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة . وقيل معناه كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم ، ( وإذا أظلم عليهم ) يعني : رأوا شدة وبلاء تأخروا وقاموا أي وقفوا كما قال الله تعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) .

قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم } . أي بأسماعهم .

قوله تعالى : { وأبصارهم } . الظاهرة : كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة ، وقيل لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر .

قوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } . قادر . ثم قرأ ابن عامر وحمزة شاء وجاء حيث كان بالإمالة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ثم قال - تعالى - : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } .

يكاد من الأفعال التي تدخل على اسم يسند إليه فعل بعده نحو { البرق يَخْطَفُ } . فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار .

والخطف : الأخذ بسرعة . والأبصار : جمع بصر ، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال . والمعنى : أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها ، وهو تصوير بليغ الشدة ذلك البرق ، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره في جانب البرق ، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شيء عليها اكتفاء بما ذكره في توقي الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين .

وقوله - تعالى - : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } وصف رائع لما يصنعه أهل الصيب في حالتي ظهور البرق واختفائه .

وكل ظرف ، وما مصدرية ولا تصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو { مَّشَوْاْ } و { أَضَآءَ } و { أَظْلَمَ } من الإِظلام وهو اختفاء النور . { قَامُواْ } أي وقفوا وثبتوا في مكانهم . من قام الماء إذا جمد . ويقال : قامت الدابة إذا وقفت .

والمعنى : أنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً انتهزوا ذلك الوميض فرصة ، فخطوا خطوات يسيرة ، وإذا خفى لمعانه وقفوا في مكانهم ، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال .

ثم قال - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } .

لو : أداة شرط ، وشاء بمعنى أراد . أي : لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي ضوء البرق فاعماهم . أو يقال : إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوي الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك . فيكون قوله تعالى { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ } ، إشعاراً بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما هو بإرادته - تعالى - . وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم ، لأهميتها . ولأنها هي التي سبق ذكرها ، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان قادراً على إذهاب ما حافظوا عليه ، كان قادراً على غيره من باب أولى .

ثم ختم الآية بقوله - تعالى - { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

الشيء في أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة موجوداً كأن أو معدوماً ، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل .

والقدير : الفعال لما يريد ، يقال : قدره على الشيء أقدره قدرة وقدراً .

وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء .

وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه : إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهاثل ، ولا يستطيعون فتح أعينهم في البرق اللامع ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعاً من قصف الرعد ، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيداً خامدين ، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم ، وانطماس عقولهم ، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه ، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم خشية أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق المهلكة . قال ابن كثير : " وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين ، وتكون " أو " في قوله تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ } بمعنى الواو ، كقوله تعالى { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أو تكون للتخيير ، أي ، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، أو للتساوى مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين . قلت : وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة بقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } الخ . فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم .

/خ20

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

1

ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :

( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .

إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .

إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ثم قال : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي : لشدته وقوته في نفسه ، وضعف بصائرهم ، وعدم ثباتها للإيمان .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } يقول : يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين .

وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدة ضوء الحق ، { كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا{[1325]} به واتبعوه ، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } يقول : كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر ، كقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ]{[1326]} } الآية [ الحج : 11 ] .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه{[1327]} إلى الكفر { قَامُوا } أي : متحيرين .

وهكذا قال أبو العالية ، والحسن البصري ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي بسنده ، عن الصحابة وهو أصح وأظهر . والله أعلم .

وهكذا يكونون{[1328]} يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى ، فيمشي{[1329]} على الصراط تارة ويقف أخرى . ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين ، الذين قال تعالى{[1330]} فيهم : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } [ الحديد : 13 ] وقال في حق المؤمنين : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } الآية [ الحديد : 12 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التحريم : 8 ] .

ذكر الحديث الوارد في ذلك :

قال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية [ الحديد : 12 ] ، ذكر لنا أن النبي{[1331]} صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ، أو بين{[1332]} صنعاء ودون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه " . رواه ابن جرير .

ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر{[1333]} القطان ، عن قتادة ، بنحوه .

وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يرى{[1334]} نوره كالنخلة ، ومنهم من يرى{[1335]} نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد{[1336]} مرة .

وهكذا رواه ابن جرير ، عن ابن مُثَنَّى ، عن ابن إدريس ، عن أبيه ، عن المنهال .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي{[1337]} حدثنا ابن إدريس ، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود : { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ التحريم : 8 ] قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى .

وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني ، حدثنا عُتْبَةُ{[1338]} بن اليقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا .

وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا ؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ، فقالوا : " ربنا أتمم لنا نورنا " .

/خ20


[1325]:في أ: "استضاءوا".
[1326]:زيادة من جـ.
[1327]:في أ: "فيه".
[1328]:في جـ: "يكذبون"، وفي أ: "يكون".
[1329]:في أ، و: "ومنهم من يمشي".
[1330]:في جـ، ط، ب، أ، و: "الله".
[1331]:في جـ، ط، ب، أ، و: "أن نبي الله".
[1332]:في جـ، ط، ب، "أبين و".
[1333]:في أ: "داود".
[1334]:في و: "يؤتى".
[1335]:في أ، و: "يؤتى".
[1336]:في جـ: "ويتقد".
[1337]:في جـ: "الطيالسي".
[1338]:في جـ: "عتيبة".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الاَيتين ، أعني قوله : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله : يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فجرى ذكرها في الاَيتين على وجه المثل . ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافرِينَ واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوّفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لما تركوا من الحق بعد معرفته .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال يعني قال الله في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ .

قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد ، وقال : وأبْصَارِهِمْ فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر في الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفي : وحد لسمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة ، ويحتجّ في ذلك بقول الله : لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي لأن في الكلام ما يدلّ على أنه مراد به الجمع ، فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنيا عن جِماعِهِ ، ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد ، كان فصيحا صحيحا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر :

كُلُوا في بَعْضِ بَطْنكُمْو تَعِفّوا *** فإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ

فوحد البطن ، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلة .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير .

قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ، ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحل بكم نقمتي فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى قدير : قادر ، كما معنى عليم : عالم ، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } استئناف ثان كأنه جواب لمن يقول : ما حالهم مع تلك الصواعق ؟ وكاد من أفعال المقاربة ، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد ، إما لفقد شرط ، أو لوجود مانع وعسى موضوعة لرجائه ، فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى ، وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب من غير أن ، لتوكيد القرب بالدلالة على الحال ، وقد تدخل عليه حملا لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة . والخطف الأخذ بسرعة وقرئ ( يخطف ) بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف ، فنقلت فتحة التاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء ، ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها ويخطف ويتخطف . { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } استئناف ثالث كأنه قيل : ما يفعلون في تارتي خفوق البرق ، وخفيته ؟ فأجيب بذلك . وأضاء إما متعد والمفعول محذوف بمعنى كلما نور لهم ممشى أخذوه ، أو لازم بمعنى ، كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ، وكذلك أظلم فإنه جاء متعديا منقولا من ظلم الليل ، ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول ، وقول أبي تمام :

هما أظلما حالي ثمة أجليا *** ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

فإنه وإن كان من المحدثين لكنه من علماء العربية ، فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه . وإنما قال مع الإضاءة { كلما } ومع الإظلام { إذا } لأنهم حراص على المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف . ومعنى ( قاموا ) وقفوا ، ومنه قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء إذا جمد . { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه ، ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب كقوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته *** . . .

( ولو ) من حروف الشرط ، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني ، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء ، لازمه ، وقرئ : لأذهب بأسماعهم ، بزيادة الباء كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .

وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه ، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى ، وأن وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته وقوله .

{ إن الله على كل شيء قدير } كالتصريح به والتقرير له . والشيء يختص بالموجود ، لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة ، وحينئذ يتناول البارئ تعالى كما قال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد } وبمعنى مشيء أخرى ، أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } . { الله خالق كل شيء } فهما على عمومهما بلا مثنوية . والمعتزلة لما قالوا الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن ، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا ، لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل . والقدرة : هو التمكن من إيجاد الشيء . وقيل صفة تقتضي التمكن ، وقيل قدرة الإنسان ، هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى : عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى ، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته ، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته . وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، لأنه شيء وكل شيء مقدور لله تعالى . والظاهر أن التمثيلين من جملة التمثيلات المؤلفة ، وهو أن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى مثلها ، كقوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } الآية ، فإنه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة . والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدة ، بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة ، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق . ويمكن جعلهما من قبيل التمثيل المفرد ، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } وقول امرئ القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي

بأن يشبه في الأول : ذوات المنافقين بالمستوقدين ، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين ، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وبإفشاء حالهم وإبقائهم في الخسار الدائم ، والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورها . وفي الثاني : أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيب فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرا ونفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين ، وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت ، من حيث إنه لا يرد من قدر الله تعالى شيئا ، ولا يخلص مما يريد بهم من المضار وتحيرهم لشدة الأمر وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم فخطوا خطا يسيرة ، ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك بهم . وقيل : شبه الإيمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي به حياة الأرض . وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة ، واعترضت دونها من الاعتراضات المشككة بالظلمات . وشبه ما فيها من الوعد والوعيد بالرعد ، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق ، وتصامهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنيه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهو معنى قوله تعالى : { والله محيط بالكافرين } واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه ، أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم ، وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة ، أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم .

ونبه سبحانه بقوله { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصار ليتوسلوا بها إلى الهدى والفلاح ، ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة ، وسدوها عن الفوائد الآجلة ، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها لأنفسهم ، فإنه على ما يشاء قدير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )

ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي ، فهنا لم يخطف البرق الأبصار ، والخطف الانتزاع بسرعة .

واختلفت القراءة في هذه اللفظة( {[316]} ) فقرأ جمهور الناس : «يَخْطَف أبصارهم » بفتح الياء والطاء وسكون الخاء ، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب ، وهي القرشية .

وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب : «يَخْطِف » بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خَطَف » بفتح الطاء ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم .

وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة : «يَخِطِّف » بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء ، وهذه أصلها «يختطف » أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين .

وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يَخَطِّف » بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة .

قال أبو الفتح : «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء » .

وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضاً ، أنه قرأ «يَخَطَّف » بفتح الياء والخاء والطاء وشدها .

وروي أيضاَ عن الحسن والأعمش «يخطِّف » بكسر الثلاثة وشد الطاء منها . وهذه أيضاً أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء إتباعاً .

وقال عبد الوارث : «رأيتها في مصحف أبي بن كعب » يَتَخَطَّف «بالتاء بين الياء والخاء » .

وقال الفراء : «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة » .

قال أبو الفتح : «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام ، وذلك لا يجوز » .

قال القاضي أبو محمد : لأنه جمع بين ساكنين دون عذر .

وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية .

ومعنى : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم ، ومن جعل { البرق } في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم .

و { كلما } ظرف( {[317]} ) ، والعامل فيه { مشوا } وهو أيضاً جواب { كلما } ، و { أضاء } صلة ما ، ومن جعل { أضاء } يتعدى قدر له مفعولاً ، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك .

وقرأ ابن أبي عبلة : «أضا لهم » بغير همز ، وهي لغة .

وفي مصحف أبي بن كعب : «مروا فيه » .

وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه » .

وفي الضحاك : «وإذا أُظلِم » بضم الهمزة وكسر اللام ، و { قاموا } معناه ثبتوا ، لأنهم كانوا قياماً ، ومنه قول الأعرابي : «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره »( {[318]} ) يريد أثبت الدهر ، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم .

وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية : كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك . وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم . ( {[319]} )

وقال قوم : معنى الآية : كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه ، فإذا افتضحوا عندكم قاموا ، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع .

وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم .

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم » وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية . ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين عليهم ، وبكل مذهب من هذين قال قوم .

وقوله تعالى : { على كل شيء } لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه( {[320]} ) و { قدير } بمعنى قادر ، وفيه مبالغة ، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك .


[316]:- جملة القراءات التي أشار إليها المؤلف رحمه الله: تسع، أفصحها وأصحها ما عليه السبعة، والقراءة التي حكاها الفراء عن بعض أهل المدينة لا تجوز، كما قاله أبو الفتح بن جني، والباقي شذوذ تجري عليه أحكامه.
[317]:- أصلها (كل) ثم دخلت (ما) المصدرية الظرفية فأصحبت (كلما) كلمة تؤدي معنى الظرفية وتفيد التكرار في المعنى.
[318]:- في الصحاح: الصعر: الميل في الخد خاصة، وقد صعر خده وصاعره: أماله من الكبر- وفي اللسان: ولأقيمن صعرك: أي ميلك على المثل- وفي حديث توبة كعب: فأنا إليه أصعر: أي أميل.
[319]:- يشهد له قوله تعالى: [ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن إصابته فتنة انقلب على وجهه].
[320]:- فيخرج المستحيل، على أن لفظ شيء محرز، لأنه بمعنى الموجود عند أهل السنة، والمستحيل غير موجود.