ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين ، فقال جل ذكره : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً ، فلم يقدم فيه خيراً ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً } ، هذا مثل المؤمن ، أعطاه الله مالاً ، فعمل فيه بطاعة الله ، وأنفقه في رضاء الله ، سراً وجهراً ، فأثابه الله عليه الجنة . { هل يستوون } ، ولم يقل : يستويان لمكان " من " ، وهو اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع ، وكذلك قوله : { لا يستطيعون } ، بالجمع لأجل ما . معناه : هل يستوي هذا الفقير البخيل ، والغني السخي ؟ كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع . وروى ابن جريج عن عطاء في قوله : { عبداً مملوكاً } ، أي : أبو جهل بن هشام ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ، أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ثم قال : { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } ، يقول ليس الأمر كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون .
ثم وضح لهم - سبحانه - كيف تضرب الأمثال ، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله - تعالى - وقدرته . .
أما المثل الأول : فيتجلى في قوله - عز وجل - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ . . } ، أي : ذكر الله - تعالى - وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - : وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره ، وهذا العبد لا يقدر على شيء من التصرفات حتى ولو كانت قليلة .
وقوله - سبحانه - : { عبدا } ، بدل من { مثلا } ، و { مملوكا } ، صفة للعبد . ووصف - سبحانه - العبد بأنه مملوك ؛ ليحصل الامتياز بينه وبين الحر ؛ لأن كليهما يشترك في كونه عبدا لله - تعالى - . ووصفه أيضا - بأنه لا يقدر على شيء ؛ للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له في التصرف ؛ لأنهما يقدران على بعض التصرفات . هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني : فيتجلى في قوله - تعالى - : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً . . . } . قال الألوسي : " و " من " في قوله : { ومن رزقناه } ، نكرة موصوفة ، ليطابق عبدا ، فإنه نكرة موصوفة - أيضا - ، وقيل : إنها موصولة ، والأول اختيار الأكثرين ، أي : حرا رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم - في { رزقناه } ؛ للإِشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق . . . " .
أي : ذكر الله - تعالى - لكم لتتعظوا وتتفكروا ، حال رجلين : أحدهما : عبد مملوك لا يقدر على شيء . والثاني حر مالك رزقه الله - تعالى - رزقا واسعا حلالا حسنا ، { فهو } ، أي : هذا الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن { سرا وجهرا } ، واختار - سبحانه - ضمير العظمة في قوله : { رزقناه } ؛ للإِشعار بكثره هذا الرزق وعظمته ، ويزيده كثرة وعظمة قوله - تعالى - بعد ذلك : { مِنَّا } ، أي : من عندنا وحدنا ، وليس من عند غيرنا . ووصف - سبحانه - الرزق بالحسن ؛ للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن في الشرع وفي نظر الناس .
وقال - سبحانه - : { فهو ينفق } بصيغة الجملة الاسمية ، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه .
وقوله : { سرا وجهرا } ، منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سر وجهر ، أو على الحالية ، أي : فهو ينفق منه في حالتي السر والجهر . والمراد أنه إنسان كريم ، لا يبخل بشيء مما رزقه الله ، بل ينفق منه في عموم الأحوال ، وعلى من تحسن معه النفقة سرا ، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا . هذان هما الجانبان المتقابلان في هذا المثل ، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذي قلب سليم ، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإِنكاري التوبيخى فقال : { هل يستوون } ؟ أي : هل يستوي في عرفكم أو في عرف أي عاقل ، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء . . مع هذا الإنسان الحر المالك الذي رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا ، فشكر الله عليه ، واستعمله في وجوه الخير . إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل .
ومادام الأمر كذلك ، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء - في العبادة ، بين الخالق الرازق الذي يملك كل شيء ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ، ولا تملك شيئا .
وقال - سبحانه - : { هل يستوون } ، مع أن المتقدم اثنان ؛ لأن المراد جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما بقوله : { عبدا } ، وبقوله : { ومن رزقناه } . فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين ، لا فردان معينان .
وقوله : { الحمد لله } ، ثناء منه - سبحانه - على ذاته ، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل ، أي : قل - أيها الانسان المؤمن العاقل - : { الحمد } كله { لله } - تعالى - على إرشاده لعباده المؤمنين ، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل ؛ لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم .
وقال - سبحانه - { بل أكثرهم . . } ؛ للإِشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه ، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل . . حال بينه وبين اتباع الحق . هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء . . وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا ، ولا تملك شيئا ، ولا تضر ولا تنفع .
ثم يضرب لهم مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب . لتقريب الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها . حقيقة أن ليس لله مثال ، وما يجوز أن يسووا في العبادة بين الله وأحد من خلقه وكلهم لهم عبيد :
( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا . هل يستوون ؟ الحمد لله . بل أكثرهم لا يعلمون . )
والمثل الأول مأخوذ من واقعهم ، فقد كان لهم عبيد مملوكون ، لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء . وهم لا يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف . فكيف يسوون بين سيد العباد ومالكهم وبين أحد أو شيء مما خلق . وكل مخلوقاته له عبيد ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مّمْلُوكاً لاّ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَمَن رّزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وشَبّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده ، والمؤمن به منهم . فأما مثَل الكافر : فإنه لا يعمل بطاعة الله ، ولا يأتي خيرا ، ولا ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه ، كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فينفقه . وأما المؤمن بالله : فإنه يعمل بطاعة الله ، وينفق في سبيله ماله ، كالحرّ الذي آتاه الله مالاً فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، يقول : بعلم من الناس وغير علم . { هَلْ يَسْتَوُونَ } يقول : هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه ، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقا حسنا ، فهو ينفق كما وَصَف ؟ فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره ، والمؤمن العامل بطاعته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، كان بعض أهل العلم يقول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، هذا مثل ضربه الله للكافر ، رزقه مالاً فلم يقدّم فيه خيرا ولم يعمل فيه بطاعة الله ، قال الله تعالى ذكره : { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا } ، فهذا المؤمن أعطاه الله مالاً ، فعمل فيه بطاعة الله ، وأخذ بالشكر ومعرفة حقّ الله ، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة ، قال الله تعالى ذكره : { هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً } ، والله ما يستويان : { الحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } ، قال : هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرا ، { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا } ، قال : المؤمن يطيع الله في نفسه وماله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } يعني : الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله ، { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرا } ، يعني : المؤمن ، وهذا المثل في النفقة .
وقوله : { الحَمْدُ لِلّهِ } ، يقول : الحمد الكامل لله خالصا دون ما تَدْعُون أيها القوم من دونه من الأوثان ، فإياه فاحمدوا دونها . وقوله : { بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } يقول : ما الأمر كما تفعلون ، ولا القول كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتُحْمد عليه ، إنما الحمد لله ، ولكن أكثر هؤلاء الكفرة الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك ، فهم بجهلهم بما يأتون ويَذَرون ، يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد .
وكان مجاهد يقول : ضرب الله هذا المثل ، والمثل الآخر بعده لنفسه ، والآلهة التي تعبد من دونه .
ثم علمهم كيف يضرب ، فضرب مثلا لنفسه ولمن عبد دونه فقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو يُنفق منه سرا وجهرا هل يستوون } ، مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ، ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء ، واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية ، على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات ، وبين الله الغني القادر على الإطلاق . وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق ، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر ، فإنه أيضا عبد الله ، وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون ، وجعله قسيما للمالك المتصرف ، يدل على أن : المملوك لا يملك ، والأظهر أن : { من } ، نكرة موصوفة ليطابق { عبدا } ، وجمع الضمير في : { يستوون } ؛ لأنه للجنسين ، فإن المعنى : هل يستوي الأحرار والعبيد ؟ { الحمد لله } ، كل الحمد له ، لا يستحقه غيره ، فضلا عن العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها . { بل أكثرهم لا يعلمون } ، فيضيفون نعمة إلى غيره ، ويعبدونه لأجلها .