فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

{ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 75 ) }

ثم علمهم كيفية ضرب الأمثال في هذا الباب فقال :

{ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً } ، أي : ذكر شيئا يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه ، وبين ما جعلوه شريكا له من الأصنام ، والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له ، وهي المملوكية والعجز عن التصرف ، فقوله : { عَبْدًا } تفسير للمثل ، وبدل منه ، ووصفه بكونه { مَّمْلُوكًا } ؛ لأن العبد والحر مشتركان في كون كل واحد منهما عبدا لله سبحانه ، ووصفه بكونه { لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات ، فهذا الوصف لتمييزه عنهما ، واحتج الفقهاء بهذا على أن العبد لا يملك شيئا .

{ وَمَن } ، أي : الذي ، وقيل موصوفة ، واختاره الزمخشري ، كأنه قيل : وحرا من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا ، { رَّزَقْنَاهُ } ، ليطابق عبدا ، { مِنَّا } ، أي : من جهتنا ، { رِزْقًا حَسَنًا } ، والمراد به : أنه مما يحسن في عيون الناس ؛ لكونه رزقا كثيرا مشتملا على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها ، { فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ } ، في وجوه الخير ، ويصرف منه إلى أنواع البر والمعروف ، { سِرًّا وَجَهْرًا } ، أي في حال السر وحال الجهر ، والمراد : بيان عموم الإنفاق للأوقات ، وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه ، وإن الثواب فيه أكثر .

{ هَلْ يَسْتَوُونَ } ، أي : الحر والعبد الموصوفان بالصفات المتقدمة ، وجمع الضمير لمكان { من } ؛ لأنه اسم مبهم ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، وقيل : إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحر ، الجنس ، أي : من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين ، والاستفهام للإنكار ، أي : هل يستوي العبيد والأحرار ، مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر ، ومن المعلوم أنهم لا يستوون ، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه .

وحاصل المعنى أنه : كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ، ورجل حر قد رزقه الله رزقا حسنا فهو ينفق منه ، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق ، والجمادات من الأصنام التي تعبدونها وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تنفع ولا تضر ، وقيل : المراد بالعبد المملوك في الآية : هو : الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته ، والآخر ، هو : المؤمن . وقال ابن عباس بمعناه ، بأطول من هذا ، والغرض إنهما لا يستويان في الرتبة والشرف .

وقال عطاء : هما أبو جهل بن هشام ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقيل : العبد ، هو : الصنم ، والثاني : عابد الصنم ، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف ؛ لأن الأول جماد ، والثاني إنسان .

{ الْحَمْدُ } كله { لِلّهِ } وحده ، حمد نفسه ؛ لأنه المنعم المستحق لجميع المحامد ، لا يستحق غيره من العباد شيئا منه ، فكيف تستحق الأصنام منه شيئا ، ولا نعمة منها أصلا ، لا بالأصالة ولا بالتوسط ، وقيل : أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد ، وقيل : أراد قل : الحمد لله ، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لمن رزقه الله رزقا حسنا ، وقيل إنه لما ذكر مثلا مطابقا للتعرض كاشفا عن المقصود ، قال : الحمد لله ، أي على قوة هذه الحجة .

{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، ذلك حتى يعبدوا من تحق له العبادة ، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة ، ونفى العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم ، أو هم يتركون الحق عنادا مع علمهم به ، فكانوا كمن لا علم له ، وخص الأكثر بنفي العلم ، إما لكونه يريد الخلق جميعا وأكثرهم المشركون ، أو ذكر الأكثر ، وهو يريد الكل ، أو المراد : أكثر المشركين ؛ لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم .