الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " ضرب الله مثلا " ، نبه تعالى على ضلالة المشركين ، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم . " ضرب الله مثلا " ، أي بين شبها ، ثم ذكر ذلك فقال : " عبدا مملوكا " ، أي : كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا ، فكذلك أنا وهذه الأصنام . فالذي هو مثال في هذه الآية ، هو عبد بهذه الصفة ، مملوك لا يقدر على شيء من المال ، ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخر بإرادة سيده . ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة ، فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم ، وإنما تفيد واحدا ، فإذا كانت بعد أمر أو نهي ، أو مضافة إلى مصدر ، كانت للعموم الشيوعي ، كقوله : أعتق رجلا ولا تهن رجلا ، والمصدر كإعتاق رقبة ، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب ، ويصح منه الاستثناء . وقال قتادة : هذا المثل للمؤمن والكافر ، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر ؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته ، وإلى أن معنى : " ومن رزقناه منا رزقا حسنا " ، المؤمن . والأول عليه الجمهور من أهل التأويل . قال الأصم : المراد بالعبد المملوك : الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا{[9980]} وأنضر وجها ، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه ، فقال الله تعالى ضربا للمثال . أي : فإذا كان هذا شأنكم ، وشأن عبيدكم ، فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته ؟ وهي لا تعقل ولا تسمع .

الثانية : فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك ، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك . قال أهل العراق : الرق ينافي الملك ، فلا يملك شيئا البتة بحال ، وهو قول الشافعي في الجديد ، وبه قال الحسن وابن سيرين . ومنهم من قال : يملك إلا أنه ناقص الملك ؛ لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء ، وهو قول مالك ومن اتبعه ، وبه قال الشافعي في القديم . وهو قول أهل الظاهر ؛ ولهذا قال أصحابنا : لا تجب عليه عبادات الأموال من زكاة وكفارات ، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك . وفائدة هذه المسألة : أن سيده لو ملكه جارية ، جاز له أن يطأها بملك اليمين ، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها ؛ لأنها ملك غيره ، ولا على العبد ؛ لأن ملكه غير مستقر . والعراقي يقول : لا يجوز له أن يطأ الجارية ، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت . ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف . وأدل دليل لنا قوله تعالى : " الله الذي خلقكم ثم رزقكم{[9981]} " [ الروم : 40 ] ، فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق . وقال عليه السلام : ( من أعتق عبدا وله مال . . . ) فأضاف المال إليه . وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك . وروي عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين ، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده . والله أعلم .

الثالثة : وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده ، وعلى أن بيع الأمة طلاقها ، معولا على قوله تعالى : " لا يقدر على شيء " ، قال : فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا ، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه ، إلا أن يدل دليل على خلافه . وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص . والله تعالى أعلم .

والرابعة : قال أبو منصور في عقيدته{[9982]} : الرزق ما وقع الاغتذاء به . وهذه الآية ترد هذا التخصيص ، وكذلك قوله تعالى : " ومما رزقناهم ينفقون{[9983]} " [ البقرة : 3 ] . و " أنفقوا{[9984]} مما رزقناكم " [ البقرة : 254 ] ، وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ) ، وقوله : ( أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها ) . فالغنيمة كلها رزق ، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق ، وهو مراتب : أعلاها ما يغذي . وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله : ( يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ) . وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك . وفي ألسنة المحدثين : السماع رزق ، يعنون سماع الحديث ، وهو صحيح .

الخامسة : قوله تعالى : " ومن رزقناه منا رزقا حسنا " ، هو : المؤمن ، يطيع الله في نفسه وماله . والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا . " هل يستوون " ، أي : لا يستوون ، ولم يقل يستويان لمكان " من " ؛ لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث . وقيل : " إن عبدا مملوكا " ، " ومن رزقناه " ، أريد بهما الشيوع في الجنس . " الحمد لله " ، أي : هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله ؛ لأنه المنعم الخالق . " بل أكثرهم " ، أي : أكثر المشركين . " لا يعلمون " ، أن الحمد لي ، وجميع النعمة مني . وذكر الأكثر ، وهو يريد الجميع ، فهو خاص أريد به التعميم . وقيل : أي : بل أكثر الخلق لا يعلمون ، وذلك أن أكثرهم المشركون .


[9980]:الأسر: الخلق.
[9981]:راجع ج 14 ص 40.
[9982]:العقيدة: اسم كتاب لأبي منصور الماتريدي، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة 333 هـ.
[9983]:راجع ج 1 ص 177.
[9984]:راجع ج 3 ص 265.