معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ، قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : ( تكون ) بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : ( أسارى ) ، والآخرون ( أسرى ) . وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم ، واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من ا لحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ومثلك يا عبد الله بن رواحة مثل موسى قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } [ يونس : 88 ] ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ، قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، -لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه- وسلم ، وأنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } [ الأنفال : 67 – 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : { له أسرى } جمع أسير مثل قتلى جمع قتيل .

قوله تعالى : { حتى يثخن في الأرض } ، أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم . قوله تعالى : { تريدون } ، أيها المؤمنون { عرض الدنيا } بأخذكم الفداء .

قوله تعالى : { والله يريد الآخرة } ، يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ، ونصركم دين الله عز وجل .

قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداءً } ، [ محمد : 4 ] فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

وبعد هذا الحديث المستفيض عن القتال في سبيل الله . . عقب - سبحانه - ذلك بالحديث عن بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرى بمناسبة ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أسرى غزوة بدر من الكافرين ، فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما أخرجه مسلم في صحيح عن ابن عباس قال : حدثنى عمر بن الخطاب : " أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لى ما وعدتنى

. فقتل المسلمون من المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين .

قال ابن عباس : فلما اسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبى بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإِسلام .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قال : قلت لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكننى من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، - حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين : فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت :

فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله . أخبرنى من أي شيئ بتكبى أنت وصاحبك . فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبى على أصحابك من أخذهم الفداء عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - عز وجل - : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } " إلخ الآيات .

وروى الإِمام والترمذى عن عبد الله بن مسعود قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما تقولون في هؤلاء الأسارى " ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم .

وقال عمر : يا رسول الله ! كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم .

وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت بواد كثير الحطب فأضرم الوادى عليهم ناراً ثم ألقهم فيه .

قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد شيئاً . ثم قال فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة .

ثم خرج عليهم رسول الله فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ؛ ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وكمثل عيسى إذ قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .

وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } ، وكمثل موسى إذ قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } .

ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق " .

قال ابن مسعود : فقلت يا رسول ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإِسلام ، فسكت رسول الله ثم قال : " إلا سهيل بن بيضاء " . وأنزل الله - عز وجل - { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض . . . } "

إلى آخر الآية .

وقال ابن إسحاق - وهو يحكى أخبار غزوة بدر - : " فلما وضع القوم أيدهم يأسرون ورسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوشحاً السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ، يخافون عليه الكرة . ورأى رسول الله - فيما ذكر لى - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم " ؟ فقال : أجل والله يا رسول الله : كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشكر ، فكان الإِثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال " .

قوله : { أسرى } : جمع أسير كقتلى جمع قتيل . وهو مأخوذ من الأسر بمعنى الشد بالإِسار أى : القيد به حتى لا يهرب ، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من يؤخذ من فتنة في الحرب ، ولو لم يشد بالإِسار .

وقوله { يُثْخِنَ } من الثخانة وهى في الأصل الغلظ والصلابة . يقال : ثخن الشيئ يثخن ثخونة وثخانة وثخنا ، أى : غلظ وصلب فهو ثخين ، ثم استعمل في النكاية والمبالغة في قتل العدو فقيل : أثخن فلان في عدوه . أى : بالغ في قتله وإنزال الجراحة الشديدة به ، لأنه بذلك بمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي لا يسيل ولا يتحرك .

والمراد بالنبى في قوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } : نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما جئ باللفظ منكراً تلطفاً به - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يواجه بالعتاب .

والمعنى : ما صح وما استقام لنبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شراً { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أى : حتى يبالغ في قتلهم ، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم إذلالاً للكفر وإعزازا لدين الله .

وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة } استئناف مسوق للعتاب .

والعرض : ما لا ثبات له ولا دوام من الأشياء ، فكأنها تعرض ثم تزول ، والمراد بعرض الدنيا هنا : الفداء الذي أخذوه من أسرى غزوة بدر حتى يطلقوا سراحهم .

تريدون - أيها المؤمنون - بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى عرض الدنيا ومتاعها الزائل ، وحطامها الذي لا ثبات له ، والله - تعالى - يريد لكم ثواب الآخرة .

فالكلام في قوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والإِرادة هنا بمعنى الرضا أى : والله - تعالى - يرضى لكم العمل الذي يجعلكم تظفرون بثوابه في الآخرة ، وهو تفضيل إذلال الشرك على أخذ الفداء من أهله .

وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغالب بل هو الغالب على أمره { حَكِيمٌ } في كل ما يأمر به أو ينهى عنه .

فالآية الكريمة تعتب على المؤمنين ، لأنهم آثروا الفداء على القتال والإِثخان في الأرض ، وذلك لأن غزوة بدر كانت أول معركة حاسمة بين الشرك والإيمان ، وكان المسلمون فيها قلة والمشركون كثرة ، فلو أن المسلمين آثروا المبالغة في إذلال أعدائهم عن طريق القتل لكان ذلك أدعى لكسر شوكة الشرك وأهله ، وأظهر في إذلال قريش وحلفهائها ، وأصرح في بيان أن العمل على إعلاء كلمة الله كان عند المؤمنين فوق متع الدنيا واعرضها ، وأنهم لا يوادون من حارب الله ورسوله مهما بلغت درجة قرابته ، وهذا ما عبر عنه عمر - رضى الله عنه - بقوله : " وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .

والخلاصة أن غزوة بدر - بظروها وملابساتها التي سبق أن أشرنا إليها - كان الأولى بالمسلمين فيها أن يبالغوا في قتل أعدائهم لا أن يقبلوا منهم فداء حتى يذلوها ويعجزوهم عن معاودة الكرة .

ورضى الله - تعالى - عن " سعد بن معاذ " فقد هرت الكراهية على وجهه بسبب أخذ الفداء من الأسرى ، وقال - كما سبق أن بينا - : " كانت غزوة بدر - أول وقعة أوفعها الله بأهل الشرك ، فكان الإِثخان في القتل أحب إلىّ من استبقاء الرجال " .

قال الفخر الرازى : قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } ثم قال الرازى : وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها : وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإِثخان ثم بعده أخذ الفداء .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : ما كان لنبيّ أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عَبَدَة الأوثان للفداء أو للمنّ . والأسر في كلام العرب : الحبس ، يقال منه : مأسور ، يراد به : محبوس ، ومسموع منهم : أناله لله أسرا . وإنما قال الله جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم .

وقوله : حتى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ يقول : حتى يبالغ في قتل المشركين فيها ، ويقهرهم غلبة وقسرا ، يقال منه : أثخن فلان في هذا الأمر إذا بالغ فيه ، وحُكي أثخنته معرفة ، بمعنى : قتلته معرفة . تريدون : يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأسركم المشركين ، وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع ، يقول : تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها . وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ يقول : والله يريد لكم زينة الاَخرة ، وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض ، يقول لهم : واطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها . وَاللّهُ عَزِيرٌ يقول : إن أنتم أردتم الاَخرة لم يغلبكم عدوّ لكم ، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، وإنه حَكِيمٌ في تدبيره أمره خلقه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتدّ سلطانهم ، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى : فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً فجعل الله النبيّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادَوْهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيْا . . . الاَية ، قال : أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ، ففادوهم بأربعة آلاف ، ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وكان أوّل قتال قاتله المشركين .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد ، قال : الإثخان : القتل .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ قال : إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتل .

قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى . . . الاَية ، نزلت الرخصة بعد ، إن شئت فمُنّ وإن شئت ففَادِ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ يعني : الذين أسروا ببدر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى من من عدوه . حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ : أي يثخن عدوّه ، حتى ينفيهم من الأرض . تُرِيدُونَ عَرَض الدّنْيا : أي المتاع والفداء بأخذ الرجال . وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ بقتلهم لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه ، الذي به تدرك الاَخرة .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تَقُولُونَ في هَؤُلاءِ الأسْرَى ؟ » فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستأن بهم ، لعلّ الله أن يتوب عليهم وقال عمر : يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا قال : فقال له العباس : قطعت رَحِمَكَ . قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل فقال ناسٌ : يأخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ ، وَقالَ ناسٌ : يأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ ، وَقالَ ناسٌ : يَأْخُذُ بقَوْلِ عبَدْ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ . ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إن اللّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجالٍ حتى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللّبَنِ ، وإن اللّهَ لَيُشَدّدَ قُلُوبَ رِجالِ حتى تَكُونَ أشَدّ مِنَ الحِجارَةِ وَإنّ مَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ ، قالَ : مَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رُحِيمٌ وَمَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى ، قالَ : إنْ تُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ . . . الاَية ، ومَثَلَكَ يا عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ قالَ : رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا ، وَمَثَلُكَ يا ابْنَ رَوَاحَةَ كمَثَلِ مُوسَى ، قالَ : رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْتُمُ اليَوْمَ عالَةٌ ، فَلا ينْفَلِتَنّ أحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْبِ عُنُقٍ » قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إلاّ سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ » قال : فأنزل الله : ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ . . . إلى آخر الثلاث الاَيات .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا أبو زميل ، قال : ثني عبد الله بن عباس ، قال : لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَر وعَليّ ؟ » قال : «ما ترون في الأسارى ؟ » فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تَرَى يا ابْنَ الخَطّابِ ؟ » فقال : لا والذي لا إله إلا هو ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله ، ولكن أرى أن تمكننا منهم ، فتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . قال عمر : فلما كان من الغد حئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان ، فقلت : يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبْكِي للّذِي عَرَضَ لأصَحابِي مِنْ أخْذِهِمُ الفِدَاءَ ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَليّ عَذَابُكُمْ أدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ » لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ . . . إلى قوله : حَلالاً طَيّبا وأحلّ الله الغنيمة لهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان ، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب { تريدون } ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش ، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية ، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه ، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم ، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في وادٍ كثير الحطب ثم نضرمه عليهم ناراً ، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد رأى الأسر : لقد كان الإثخان في القتل أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ومال إليه ، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر { فإما منّاً بعد وإما فداء }{[5471]} وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج ، فقال : إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فمن يتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }{[5472]} ومثل عيسى قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[5473]} ومثلك يا عمر مثل نوح قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }{[5474]} ومثل موسى قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم }{[5475]} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق »{[5476]}

وفي هذا الحديث قال عمر : فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت .

قال القاضي أبو محمد : وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح ، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ » معرفاً ، وقرأ جمهور الناس «لنبي » ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون » على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون » بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى » ، وقرأ بعض الناس «أسارى » ورواها المفضل عن عاصم ، وهي قراءة أبي جعفر ، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى ، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى ، إذا كانت أيضاً أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة ، فهو فيها بمنزلة المفعول ، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضاً كسلان على كسلى تشبيهاً بأسرى في جمع أسير ، قاه سيبويه : وهما شاذان ، وقال الزجّاج : أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع{[5477]} ، وقرأ جمهور الناس «يثْخن » بسكون الثاء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يَثخّن » بفتح الثاء وشد الخاء ، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل ، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها ، ثم أمد{[5478]} مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال { تريدون عرض الدنيا } أي مالها الذي يعن ويعرض ، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال ، { والله يريد الآخرة } أي عمل ألآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقرأ ابن جماز «الآخرةِ » بالخفض على تقدير المضاف ، وينظر ذلك لقول الشاعر : [ المتقارب ]

أكل امرىء تحسبين امرأً*** ونار توقّدُ بالليلِ نارا{[5479]}

على تقدير وكل نار ، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : «إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم ، وإن شئتم قتلوا وسلمتم » فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون ، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا .

قال القاضي أبو محمد : وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب ، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى : { لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { ما كان لنبي } إلى قوله { عظيم } إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس ، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء ، وحينئذ قال سعد بن معاذ : الإثخان أحب إليَّ من استبقاء الرجال ، وبذلك جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيين من عذاب أن لو نزل ، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : «أسيري يا رسول الله » ، وقول مصعب بن عمير للذي يأسر أخاه : «شد يدك عليه فإن له أماً موسرة » ، إلى غير ذلك من قصصهم ، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره ، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء ، ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر ، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير ، فلم ينزل على شيء من هذا عتب ، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء ، وذلك معترض بما ذكرته ، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك ، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال ، والذي منَّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها ، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين ، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم ، فاختاروا المفضول فوقع العتب ، ولم يكن تخييراً في مستويين ، وهذا كما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل{[5480]} ، و { عزيز حكيم } صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطاً .

قال القاضي أبو محمد : وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب ، وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال : العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء .


[5471]:- من الآية (4) من سورة (محمد).
[5472]:- من الآية (36) من سورة (إبراهيم).
[5473]:- من الآية (118) من سورة (المائدة).
[5474]:- من الآية (26) من سورة (نوح).
[5475]:- من الآية (88) من سورة (يونس).
[5476]:- الحديث مروي من طرق كثيرة، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرج مثله أحمد عن أنس رضي الله عنه، وكذلك أخرج مثله ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والمضمون واحد، ولكن توجد اختلافات يسيرة في الألفاظ. (الدر المنثور).
[5477]:- أسارى تكون بضم الهمزة وتكون بفتحها، وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا، قال الأعشى: وقيّدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى: هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى: هم الموثوقون ربطا، وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب.
[5478]:- تأتي (أمدّ) بمعنى (مدّ)، يقال: أمدّ الشيء ومده: زاد فيه، والمعنى المراد هنا أن الله زاد في مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
[5479]:- سبق الاستشهاد بهذا البيت والتعليق عليه عند تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.
[5480]:- حديث الإسراء حديث طويل، وقد رواه البخاري، وفيه مما يشير إليه ابن عطية هنا: (ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة، أنت عليها وأمتك).