أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

{ قل تعالوا } أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم . { أتل } أقرأ . { ما حرم ربكم } منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول { أتل } لأنه بمعنى أقل ، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم { عليكم } متعلق ب{ حرم } أو { أتل } . { ألا تشركوا به } أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب{ ما حرم } ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء ، أو البدل من { ما } أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام ، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا . { شيئا } يحتمل المصدر والمفعول . { وبالوالدين إحسانا } أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما . { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } من أجل فقر ومن خشية . كقوله : { خشية إملاق } { نحن نرزقكم وإياهم } منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه . { ولا تقربوا الفواحش } كبائر الذنوب أو الزنا . { ما ظهر منها وما بطن } بدل منه وهو مثل قوله { ظاهر الإثم وباطنه } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن . { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر مفصلا . { وصاكم به } بحفظه . { لعلكم تعقلون } ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و { تعالوا } معناه أقبلوا ، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمراً من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو{[5149]} ، وتعالى هو مطاوع عالى ، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل . و { أتل } معناه اسرد وأ نص من التلاوة التي يصح هي إتباع بعض الحروف بعضا ، و { ما } نصب بقوله { أتل } وهي بمعنى الذي ، وقال الزجّاج أن يكون قوله { أتل } معلقاً عن العمل و { ما } نصب ب { حرم } .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق و { أن } في قوله { أن لا تشركوا } يصح أن تكون في موضع رفع الابتداءو التقدير : الأمر أن ، أو : ذلك أن ، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من { ما } قاله مكي وغيره .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والمعنى يبطله فتأمله ، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله التقدير : إرادة أن لا تشركوا به شيئاً ، إلا أن هذا التأويل يخرج{ ألا تشركوا } من المتلو ويجعله سبباً لتلاوة المحرمات . و{ تشركوا } يصح أن يكون منصوباً ب { أن } ، ويتوجه أن يكون مجزوماً بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود ، و { أن } قد توصل بما نصبته ، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي ، و { شيئاً } عام يراد به كل معبود من دون الله ، و { إحساناً } نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس ، وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة { بسم الله الرحمن الرحمن قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآية ، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة ، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى ، وإن اعترض من قال إن { تشركوا } منصوب ب { أن } بعطف المجزومات عليه فلذلك موجود في كلام العرب ، وأنشد الطبري حجة لذلك : [ الرجز ] .

حج وأوصى بسليمى الأعْبُدا . . . أن لا ترى ولا تكلمْ أحدا

ولا يزلْ شرابُها مبرَّدا{[5150]} . . .

وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم } الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات ، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين ، و «الإملاق » الفقر وعدم المال ، قاله ابن عباس وغيره ، يقال أملق الرجل إذا افتقر .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب ، وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل ، والملق الحجارة السود واحدته ملقة ، وذكر منذر بن سعيد{[5151]} أن الإملاق الإنفاق ، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن علياً قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت ، وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق ، وحكى أيضاً النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم .

وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و «ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع ، وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا } الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة ، ومعنى الآية { إلا بالحق } الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه ، و { ذلكم } إشارة إلى هذه المحرمات ، و «الوصية » الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

أجدَّكَ لم تسمعْ وَصَاةَ محمَّدٍ . . . نبيِّ الإلهِ حين أوصى وَأَشْهَدَا{[5152]}

وقوله { لعلكم } ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين .


[5149]:- قال ابن الشجري: "جعلوا التقدم ضربا من العلو والارتفاع لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له: تعال، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي". قارن هذا بالتعليل الذي ذكره ابن عطية.
[5150]:- هذه الأبيات الثلاثة من مشطور الرجز، ولم نعثر فيما لدينا من المراجع على قائلها، والشاهد فيها أن (لا) في قوله: (أن لا ترى) نافية ومع ذلك فقد عطف الشاعر عليها الفعل مجزوما بلا الناهية في قوله: (ولا تكلم) وفي قوله: (ولا يزل).
[5151]:- هو منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمان النقري القرطبي- أبو الحكيم البلوطي- قاضي قضاة الأندلس في عصره، كان بصيرا بالجدل منحرفا إلى مذاهب أصحاب الكلام، له كتب في القرآن والسنة منها: "أحكام القرآن" و"الإبانة عن حقائق أصول الديانة"-و"الناسخ والمنسوخ" (الكامل لابن الأثير. ونفح الطيب، وبغية الملتمس).
[5152]:- البيت لميمون بن قيس الأعشى، وهو من قصيدته المعروفة التي قالها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم المسهّدا وقوله: (أجدك) معناه: أهذا جد منك؟ والوصاة والوصية: ما يُوصى به ويطلب تنفيذه على جهة الفرض والتأكيد.