قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ } : بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل ، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة ، والبدلُ سبعة أقسام ، على خلافٍ في بعضها ، بدلُ كلٍ من كل ، بدلُ بعض من كل ، بدلُ اشتمال ، بدل غلط ، بدل نسيان ، بدل بَداء ، بدل كل من بعض . أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها ، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام : " إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر " ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن ، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة :
لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ *** وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
قال : لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص ، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة . ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله :
رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها *** بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ
وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ " طلحة " قال : لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة ، وطلحة كلٌ ، وقد أُبْدِل منها ، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس :
كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا *** لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
فغذاةَ بعضُ اليوم ، وقَد أبدل " اليومَ " منها . ولا حُجَّة في البيتين ، أمَّا الأولُ : فإن الأصل : أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه ، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر " طلحة " ، على أن الأصل : أعظُمَ طلحة ، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف ، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم . ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ ، موضوعُها كتب النحو .
وقيل : إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى ، قاله جعفر بن محمد ، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ .
والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة ، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر . وفائدةُ البدلِ : الإِيضاحُ بعد الإِبهام ، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ .
و " الذين " في محلِّ جرٍّ بالإِضافة ، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع " الذي " في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً ، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه :
نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا *** يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا
وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه ، كقوله :
وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ *** هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، بخلاف مفرده ، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم .
وأَنْعَمْتَ : فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول ، والتاءُ في " أنعمتَ " ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ . و " عليهم " جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت ، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ .
والهمزة في " أَنْعمت " لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه . ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى ، تقدَّم واحدٌ ، والباقي : التعديةُ نحو : أخرجته ، والكثرة نحو : أَظْبى المكان أي كَثُر ظِباؤه ، والصيرورة نحو : أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة ، والإِعانة نحو : أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب ، والسَّلْب نحو : أَشْكَيْتُه أي : أَزَلْتُ شِكايته ، والتعريض نحو : أَبَعْتُ المتاعَ أي : عَرَضْتُه للبيع ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو : أَحْمدته أي وجدتُه محموداً ، وبلوغُ عدد نحو : أَعْشَرَتِ الدراهم ، أي : بَلَغَتْ عشرةً ، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح ، أو مكان نحو : أَشْأَمَ ، وموافقهُ الثلاثي نحو : أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته ، أو أغنى عن الثلاثي نحو : أَرْقَلَ البعير ، ومطاوعة فَعَل نحو : قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ ، ومطاوعة فَعَّل نحو : قَطَّرْته فَأَقْطَرَ ، ونفي الغزيرة نحو : أَسْرع ، والتسمية نحو : أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً ، والدعاء نحو : أَسْقيته أي قلت له : سَقاك الله ، والاستحقاق نحو : أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد ، والوصولُ نحو : أَعْقَلْته ، أي : وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه ، والاستقبال نحو/ : أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ ، والمجيء بالشيء نحو : أكثرتُ أي جئتُ بالكثير ، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو : أشرقت الشمس أضاءت ، وشَرَقَتْ : طَلَعت ، والهجومُ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم أي : اطَّلَعْتُ عليهم .
و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً ، نحو : عليه دَيْنٌ ، ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المجاوزة كقوله :
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر *** لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها
أي : عني ، وبمعنى الباء : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] أي بأَنْ ، وبمعنى في : { مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أي : في ملك ، والمصاحبة نحو : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] والتعليل نحو : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، أي : لأجل هدايته إياكم ، وبمعنى مِنْ : { حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] أي : إلا من أزواجهم ، والزيادة كقوله :
أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ *** على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
لأن " تروق " يتعدَّى بنفسه ، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية ، فتكونُ اسماً في موضعين ، أحدُهما : أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله :
غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها *** تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها معنى فوق ، أي من فوقه ، والثاني : أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله :
هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ *** بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها
ومثلُها في هذين الحكمين : عَنْ ، وستأتي إن شاء الله تعالى .
وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددة بين الاسم والفعل والحرف : أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما ، وأمَّا الفعلُ قال : فإنك تقول : " علا زيدٌ " أي ارتفع وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ " على " إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك ، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم : إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر .
والأصل في هاء الكناية الضمُّ ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين ، نحو : عَلَيْهِم وفيهم وبهم ، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله : " وفيهُمِ الحكام " بكسر الميم .
وفي " عليهم " عشر لغات قُرئ ببعضها : عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم ، عليهِمي ، عَلَيْهُمُ ، عليهِمُو : بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو ، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط ، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم ، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري .
و " غيرِ " بدلٌ من " الذين " بدلُ نكرة من معرفة ، وقيل : نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن " غير " نكرةٌ و " الذين " معرفةٌ ، وأجابوا عنه بجوابين : أحدهما : أن " غير " إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين ، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ " غير " حينئذٍ بالإِضافة ، تقول : مررتُ بالحركة غير " السكون " والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح . والثاني : أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ ، وقيل : إنَّ " غير " بدلٌ من الضمير المجرور في " عليهم " ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، ويُنوَى بالأول الطرحُ ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير : صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم .
و " المغضوب " : خفضٌ بالإِضافةِ ، وهو اسمُ مفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور ، ف " عَليهم " الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه ، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ : غيرِ الذين غُضِبَ عليهم . والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ .
واعلَمْ أنَّ لفظَ " غير " مفردٌ مذكرٌ أبداً ، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه ، تقول : قامت غيرُك ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة ، وكذلك أخواتُها ، أعني نحوَ : مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب ، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على " إلاّ " ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها ، وقد يُرَاد بها النفيُ ك لا ، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في " لا " تقول : أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، أي غير ضاربٍ زيداً ، ومنه قول الشاعر :
إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه *** على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
تقديرُه : لغيرُ مكفورٍ عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي ، لو قلت : جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ ، تريد : غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ ، لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في " لا " . وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً ، وقولٌ ثالثٌ : مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ .
وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً ، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ .
وقرئ " غيرَ " نصباً ، فقيل : حالٌ من " الذين " وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك ، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى ، وقيل : من الضمير في " عليهم " وقيل : على الاستثناءِ المنقطعِ ، ومنعه الفراء قال : لأن " لا " لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ ، كقوله :
ما كان يَرْضَى رسولُ الله فِعْلَهما *** والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ
وأجابوا بأنَّ " لا " صلةٌ زائدةٌ ، مِثْلُها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقول الشاعر :
وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه *** وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ
أَبَى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ *** به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه
ف " لا " في هذه المواضع صلةٌ . وفي هذا الجواب نظرٌ ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة ، فقولُهم : إن " لا " زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/ ، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا : وُجِدَتْ " لا " زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة . وتحتملُ أن تكونَ " لا " في قوله : " لا البخلَ " مفعولاً به ل " أبى " ، ويكونَ نصبُ " البخلَ " على أنه بدلٌ من " لا " ، أي أبى جودُه قولَ لا ، وقولُ لا هو البخلُ ، ويؤيِّدُ هذا قولُه : " واستعجَلَتْ به نَعَمْ " فَجَعَلَ " نَعَم " فاعلَ " استعجَلَتْ " ، فهو من الإِسناد اللفظي ، أي أبى جودُه هذا اللفظ ، واستعجل به هذا اللفظُ .
وقيل : إنَّ نَصْبَ " غيرَ " بإضمار أعني ، ويُحكى عن الخليل . وقدَّر بعضُهم بعد " غير " محذوفاً ، قال : التقديرُ : غيرَ صراطِ المغضوبِ ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ ، فلم يقيِّدْه بجرِّ " غير " ولا نصبِه ، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله : { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، وهذا ضعيفٌ ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ ، فالأوْلَى أن يكون صفةً ل " صراطَ الذين " ويجوز أن تكونَ بدلاً من { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أو من { صِرَاطَ الَّذِينَ } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل ، وفي جوازِه نظرٌ ، وليس في المسألة نقلٌ ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة ، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني .
. . واعلم أنه حيث جَعَلْنَا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ " غير " .
و " لا " في قوله : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من " غير " لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ " الضالِّين " على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون : هي بمعنى " غير " ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صُرِّح ب " غير " كانَتْ للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب .
و " الضَّالين " مجرورٌ عطفاً على " المغضوب " ، وقُرِئَ شاذاً : الضَّأَلِّين بهمز الألف ، وأنشدوا :
وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ *** بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ
قال أبو القاسم الزمخشري : " فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين " انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان ، قال الشاعر :
فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز " العَأْلَمِ " وقال آخر :
ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهمز ألف " زَوْزأة " ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان : " مِنْسَأْتَه " بهمزة ساكنة : إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً .
فإن قيل : لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً ؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام .
والإِنعام : إيصالُ الإِحسان إلى الغير ، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ ، فلا يقال : أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره .
والغضبُ : ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ ، ومنه قولُه عليه السلام : " اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم ، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه " ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره ، ويقال : فلانٌ غَضَبة " إذا كان سريعَ الغضبِ .
ويقال : غضِبت لفلانٍ [ إذا كان حَيًّا ] ، وغضبت به إذا كان ميتاً ، وقيل : الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ ، وقيل : إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ .
والضَّلال : الخَفاءُ والغَيْبوبةُ ، وقيل : الهَلاك ، فمِن الأول قولُهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن ، وقوله :
ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ *** عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا
والضَّلْضَلَةُ : حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي . ومن الثاني :
{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضلالُ : العُدول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليلِ قوله : { فَتُذَكِّرَ } .
القول في " آمين " : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : استجِبْ ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ ، وقيل : ليس باسم فِعْل ، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير : يا آمين ، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ ، والثاني : أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ . ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى : لأنه اسمُ فعلٍ ، وهو توجيهٌ حسنٌ ، نقله صاحب " المُغْرِب " .
وفي آمين لغتان : المدُّ والقصرُ ، فمن الأول قوله :
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ *** حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا
يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً *** ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه *** آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا
وقيل : الممدودُ اسمٌ أعجمي ، لأنه بزنة قابيل وهابيل . وهل يجوز تشديدُ الميم ؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .