قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } : " مَنْ " استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " أظلمُ " أفعلُ تفضيلٍ خبرُه ، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ ، أي : لا أحدَ أظلمُ منه ، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً : وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى } [ الأنعام : 21 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } [ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ } [ الزمر : 32 ] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه ، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك ؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ ، أحدُها : - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال : لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله ، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله ، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله ، وكذلك ما جاءَ منه . الثاني : أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك ، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما . الثالث : أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة ، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم تساوون في ذلك وصار المعنى : ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة ، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم ، كما أنَّك إذا قلتَ : " لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ " لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر ، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم ، لا يُقال : إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً .
و " مَنْ " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها ، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها ، و " مساجد " مفعولٌ أولُ لمَنَع ، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها ، وقد سُمع " مَسْجَد " بالفتح على الأصل ، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه : المَسْيِد في لغة .
قوله : { أَن يُذْكَرَ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع ، تقولُ : مَنَعْتُه كذا . والثاني : أنه مفعولٌ من أجلِه أي : كراهةَ أن يُذْكَرَ . وقال الشيخ : " فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله ، وما أَشْبهه " . والثالثُ : أنه بدلُ اشتمالٍ من " مساجد " ، أي : مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها . والرابع : أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ ، والأصلُ : مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ ، و " في خَرابِها " متعلِّقٌ بسَعَى . واختُلِف في " خراب " : فقال أبو البقاء : " هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم ، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ . وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ هل يَعْمَلُ أو لا ؟ وأنشدوا على إعماله :685 أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني *** وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقال غيرُه : هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً ، فالمعنى : سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة ، ويقال : منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله :
ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [ به ] غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب
فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل .
قوله : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } : " لهم " خبرُ " كان " مقدَّمٌ على اسمِها ، واسمُها " أَنْ يدخُلوها " لأنه في تأويل المصدرِ ، أي : ما كان لهم الدخولُ ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن " أولئك " .
قوله : { إِلاَّ خَآئِفِينَ } حالٌ من فاعل " يَدْخُلوها " ، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ ، لأن التقديرَ : ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف . وقرأ أُبَيّ " خُيَّفاً " وهو جمعُ خائف ، كضارب وضُرَّب ، والأصل : خُوَّف كصُوَّم ، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ ، قالوا : صُوَّم وصُيَّم ، وحَمَل أولاً على لفظ " مَنْ " ، فَأَفْرَد في قوله : " مَنَع ، وسعى " وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله : " أولئك " وما بعده .
قوله : { لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها لاستئنافِها عَمَّا قبلَها ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.