الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (114)

قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } : " مَنْ " استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " أظلمُ " أفعلُ تفضيلٍ خبرُه ، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ ، أي : لا أحدَ أظلمُ منه ، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً : وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى } [ الأنعام : 21 ]

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } [ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ } [ الزمر : 32 ] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه ، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك ؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ ، أحدُها : - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال : لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله ، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله ، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله ، وكذلك ما جاءَ منه . الثاني : أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك ، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما . الثالث : أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة ، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم تساوون في ذلك وصار المعنى : ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة ، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم ، كما أنَّك إذا قلتَ : " لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ " لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر ، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم ، لا يُقال : إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً .

و " مَنْ " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها ، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها ، و " مساجد " مفعولٌ أولُ لمَنَع ، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها ، وقد سُمع " مَسْجَد " بالفتح على الأصل ، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه : المَسْيِد في لغة .

قوله : { أَن يُذْكَرَ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع ، تقولُ : مَنَعْتُه كذا . والثاني : أنه مفعولٌ من أجلِه أي : كراهةَ أن يُذْكَرَ . وقال الشيخ : " فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله ، وما أَشْبهه " . والثالثُ : أنه بدلُ اشتمالٍ من " مساجد " ، أي : مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها . والرابع : أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ ، والأصلُ : مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ ، و " في خَرابِها " متعلِّقٌ بسَعَى . واختُلِف في " خراب " : فقال أبو البقاء : " هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم ، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ . وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ هل يَعْمَلُ أو لا ؟ وأنشدوا على إعماله :685 أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني *** وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا

وقال غيرُه : هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً ، فالمعنى : سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة ، ويقال : منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله :

ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [ به ] غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب

فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل .

قوله : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } : " لهم " خبرُ " كان " مقدَّمٌ على اسمِها ، واسمُها " أَنْ يدخُلوها " لأنه في تأويل المصدرِ ، أي : ما كان لهم الدخولُ ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن " أولئك " .

قوله : { إِلاَّ خَآئِفِينَ } حالٌ من فاعل " يَدْخُلوها " ، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ ، لأن التقديرَ : ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف . وقرأ أُبَيّ " خُيَّفاً " وهو جمعُ خائف ، كضارب وضُرَّب ، والأصل : خُوَّف كصُوَّم ، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ ، قالوا : صُوَّم وصُيَّم ، وحَمَل أولاً على لفظ " مَنْ " ، فَأَفْرَد في قوله : " مَنَع ، وسعى " وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله : " أولئك " وما بعده .

قوله : { لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها لاستئنافِها عَمَّا قبلَها ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً .