قولُه تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } : " لا يَسْتَحْيي " جملةٌ في محل الرفع خبرٌ ل " إنَّ " ، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد ، وقال الزمخشري : " إنه موافق له " أي : قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد ، والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف ، وقد جاء اسْتَحَى يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل : استقى يستقي ، وقُرئ به ، ويُرْوَى عن ابن كثير . واختُلف في المحذوفِ فقيل : عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل . وقيل : لامُها فوزنُه يَسْتَفِع ، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ ، ومن الحَذْفِ قولُه :
ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي *** محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ
إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه *** كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
والحياءُ لغةً : تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به ، واشتقاقُه من الحياة ، ومعنا على ما قاله الزمخشري : " نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال : نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ ، كما قالوا : فلان هَلَك من كذا حياءً " . انتهى . يعني قوله : " نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ " أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ ، وحَشاهُ وهو ما احتوى عليه البطن ، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك .
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ ، وقيل : مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه ، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة ، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا : " أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ " قوبل قولُهم ذلك بقوله : " إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ " ، ونظيرُه قول أبي تمام :
مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها *** أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ
لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ .
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ ، تقول : اسْتَحْيَتْهُ ، وعليه : " إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ " البيت ، واستَحْيَيْتُ منه ، وعليه : " ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ " البيت ، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى " أَنْ يضربَ " بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً ، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه " أنَّ لهم جناتٍ " .
و " يَضْرِبَ " معناه : يُبَيِّنَ ، فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه التصييرُ ، فيتعدَّى لاثنين نحو : " ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً " ، وقال بعضُهم : " لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة " ، فعلى القول الأول يكونُ " مَثَلاً " مفعولاً و " ما " زائدةٌ ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً ، ونظيرُه قولُهم : " لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه " وقولُ امرئ القيس :
وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا *** وحديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقال أبو البقاء : " وقيل " ما " نكرةٌ موصوفةٌ " ، ولم يَجْعَلْ " بعوضة " صفتَها بل جَعَلَها بدلاً منها ، وفيه نظرٌ ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً محذوفةً ولا ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ " بعوضةً " صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها بالجنسِ المُنَكَّرِ لإِبهامِه فهي في معنى " قليل " ، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج وثعلب ، وتكون " ما " وصفتُها حينئذ بدلاً من " مثلاً " ، و " بعوضةً " بدلاً من " ما " أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ " ما " صفةٌ ل " مثلاً " ، أو نعتٌ ل " ما " إنْ قيل : إنها بدلٌ من " مثلاً " كما تقدَّمَ في قولِ الفراء ، وبدلٌ من " مثلاً " أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ : إنَّ " ما " زائدةٌ . وقيل : " بعوضة " هو المفعولُ و " مثلاً " نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ . وقيل : نُصِبَ على إسقاطِ الخافض التقديرُ : ما بينَ بعوضةٍ ، فلمَّا حُذِفَتْ " بَيْنَ " أُعربت " بعوضةً " بإعرابها ، وتكونُ الفاءُ في قولِه : " فما فوقها " بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها ، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا :
يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ *** ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ
أي : ما بينَ قَرْنٍ ، وحَكَوا : " له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً " ، وعلى القول الثاني يكونُ " مثلاً " مفعولاً أولَ ، و " ما " تحتملُ الوجهين المتقدمين و " بعوضةً " مفعولٌ ثانِ ، وقيل : بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و " مَثَلاً " هو الثاني ولكنه قُدِّم .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في " ما " ثلاثةَ أوجه : زائدةٌ ، صفةٌ لما قبلَها ، نكرةٌ موصوفةٌ ، وأنَّ في " مَثَلاً " ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ ، مفعولٌ ثانِ ، حالٌ مقدَّمةٌ ، وأنَّ في " بعوضة " تسعة أوجهٍ . والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ " ضَرَبَ " متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيَّن ، و " مثَلاً " مفعولٌ به ، بدليلِ قولِه :
[ الحج : 73 ] ، و " ما " صفةٌ للنكرة ، و " بعوضةً " بدلٌ لا عطفُ بيان ، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ .
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع " بعوضةٌ " ، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو " ما " على أنها استفهاميةٌ ، أي : أيُّ شيء بعوضةٌ ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه . وقيل : المبتدأ مضمرٌ تقديرُه : هو بعوضةٌ ، وفي ذلك وجهان ، أحدُهما : أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً ل " ما " لكونِها بمعنى الذي ، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في " أيّ " خاصةً لطولِها بالإِضافة ، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ ، كقراءةِ : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ } [ الأنعام : 154 ] ، وقولِه :
مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ *** ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ
أي : الذي هو أحسنُ ، وبما هو سَفَهٌ ، وتكونُ " ما " على هذا بدلاً من " مثلاً " ، كأنه قيل : مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ . والثاني : أن تُجْعَلَ " ما " زائدةٌ أو صفةً وتكونَ " هو بعوضةٌ " جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ .
قولُه : { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى ، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً . و " ما " في { فَمَا فَوْقَهَا } إن نَصَبْنا " بعوضةً " كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي ، وصلتُها الظرفُ ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً ، وإنْ رَفَعْنَا " بعوضةٌ " ، وجَعَلْنَا " ما " الأولى موصولةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها ، لكنْ في جَعْلِنا " ما " موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ ، وإنْ جَعَلْنَا " ما " زائدةً أو صفةً لنكرة و " بعوضةٌ " خبراً ل " هو " مضمراً كانت " ما " معطوفةً على " بعوضة " .
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع ، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع ، وكذلك البَضْعُ والعَضْب ، قال :
لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار *** إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا
ومعنى : { فَمَا فَوْقَهَا } أي : في الكِبَر وهو الظاهرُ ، وقيل : في الصِّغَرِ .
قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ } " أمَّا " : حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله ، كذا قدَّره سيبويه ، قال : " أمَّا " بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ " . وقال الزمخشري : " وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ ، تقولُ : زيدٌ ذاهبٌ ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت : أمَّا زيدٌ فذاهبٌ " وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك . وقال بعضُهم : " أمَّا " حرفُ تفصيلٍ لِما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ ، ولا يليها إلا المبتدأ ، وتَلْزَمُ الفاءُ في جوابها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ كقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقالُ لهم : أَكَفَرْتُمْ ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ ، كقوله :
فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ *** ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ
أي : فلا قتالَ ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت : " أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار " لم يَجُزْ ، ويجوز أنْ يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها ، متليٌّ أمّا كقوله :
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد ، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء .
وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو : أمَّا عِلْماً فعالمٌ " : فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه عند التميميين برُجْحَان ، وضَعُفَ رفعُه ، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع . وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ ، نحو : " أمَّا العلمُ فعالمٌ " ونصبُ المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ ، والمعرَّفُ مفعولٌ له . وأمَّا الأخفشُ فنصبُهما عنده على المفعول المطلق . والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو : أمَّا علماً فلا علَمَ له " أو : فإنَّ زيداً عالمٌ ، لأن " لا " و " إنَّ " لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما ، وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر ، أي : مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالمٌ ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، والجملَةُ خبرهُ ، والتقديرُ : أمَّا علمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا .
و { الَّذِينَ آمَنُواْ } في محلِّ رفع بالابتداء ، و { فَيَعْلَمُونَ } خبرُه . قوله : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } الفاءُ جوابُ أمَّا ، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و " أنَّه الحقُّ " سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي : فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً . وقال الجمهور : لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ النسبةِ فيما بعدَ " أنَّ " كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به ، والضميرُ في " أنَّه " عائدٌ على المَثَل . وقيل : على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل ، وقيل : على تَرْكِ الاستحياءِ . و " الحقُّ " هو الثابتُ ، ومنه " حَقَّ الأمرُ " أي : ثَبَتَ ، ويقابِلُه الباطلُ .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن " الحق " أي : كائناً وصادراً مِنْ ربهم ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ . وقال أبو البقاء : " والعامل فيه معنى الحقِّ ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه " أي : في الحق ، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً .
قوله : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ } اعلَمْ أنَّ " ماذا صنعت " ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات : أن تكون " ما " اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ ، و " إذا " اسمُ إشارةٍ خبرهُ . والثاني : أن تكونَ " ما " استفهاميةً وذا بمعنى الذي ، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله :
ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ *** أَنَحْبٌ فَيُقْضى أم ضَلالٌ وباطِلُ
ف " ذا " هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو " أَنَحْبٌ " ، وكذا { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوُ } [ البقرة : 219 ] في قراءة أبي عمرو .
والثالث : أن يُغَلَّبَ حكمُ " ما " على " ذا " ، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } في قراءة غير أبي عمروٍ ، و " ماذا أَنْزَلَ ربُّكم ، قالوا : خيراً : عند الجميع ، ومنه قوله :
يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم *** لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا
ف " ماذا " مبتدأ ، و " بالُ نسوتكم " خبرُه . الرابع : أن يُجْعَلَ " ماذا " بمنزلةِ الموصول تغليباً ل " ذا " على " ما " ، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه ، وهو قليلٌ جداً ، ومنه قولُ الشاعر :
دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه *** ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني
فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ . الخامسُ : زعم الفارسي أن " ماذا " كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد : " دَعي ماذا عَلِمْتِ " أي : دَعي شيئاً معلوماً وقد تقدَّم تأويلُه . السادس : وهو أضعفُها أن تكونَ " ما " استفهاماً و " ذا " زائدةً وجميعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له ، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً .
إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ } يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ الباقيةِ ، أحَدُهما : أن تكونَ " ما " استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، و " أراد الله " صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه ، تقديره : أرادَه اللهُ ، والموصولُ خبرُ " ما " الاستفهاميةِ . والثاني : أن تكونَ " ماذا " بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه : أيَّ شيء أرادَ الله ، ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ .
[ والإِرادةُ لغةً : طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه ، وقد تتجرَّدُ للطلبِ ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي : طَلَب ، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام ، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ ، وأصلُها : إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث ] .
قوله : " مَثَلاً " نصبٌ على التمييزِ ، قيل : جاءَ على معنى التوكيدِ ، لأنه من حيث أُشير إليه ب " هذا " عُلِم أنه مثلٌ ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه . وقيل : نصبٌ على الحال ، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل : اسمُ الإِشارةِ ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ ، وقيل : اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك ، وقيل : على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين ، ومعناه عندهم : أنه كان أصلُه أَنْ يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ : بهذا المثلِ ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ ، وعلى ذلك قولُ امرئ القيس :
سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ *** وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا
قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } " الباء " للسببيةِ ، وكذلك في { يَهْدِي بِهِ } وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ ب " أمَّا " ، وهما من كلام الله تعالى ، وقيل : في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً ، أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به ، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين ، وهما على هذا من كلامِ الكفار ، وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي : مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً .
وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } من كلام الكفار ، وجملةُ قوله : { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من كلام الباري تعالى . وهذا ليس بظاهرٍ ، لأنه إلباسٌ في التركيب . والضميرُ في " به " عائدٌ على " ضَرْب " المضاف تقديراً إلى المثل ، أي : بِضَرْب المَثَل ، وقيل : الضمير الأول للتكذيبِ ، والثاني للتصديق ، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام .
وقُرئَ : { يُضِلُّ به كثيرٌ ويُهْدى به كثيرٌ ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون } بالبناء للمفعول ، وقُرئَ أيضاً : { يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ ، وما يَضِلُّ بِه إلا الفاسقون } بالبناء للفاعل ، قال بعضهم : " وهي قراءة القَدَرِيَّة " قلت : نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة ، ثم قال : " وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين " يعني قارئها ، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف . فإن قيل : كيف وَصَف المهتدين هنا بالكثرةِ وهم قليلون ، لقوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }
[ سبأ : 13 ] ؟ فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرون في الحقيقةِ كقولِهِ :
إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ *** قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا
قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } . الفاسقين : مفعولٌ ل " يُضِلُّ " وهو استثناءٌ مفرغٌ ، وقد تقدَّم معناه ، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء ، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه : وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله :
نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه *** ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا
أي : لم ينجُ بشيء ، ومنعَ أبو البقاء نصبَه على الاستثناءِ ، كأنه اعتبرَ مذهبَ جمهورِ االبصريين .
والفِسْقُ لغةً : الخروجُ ، يقال : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها ، أي : خَرَجَتْ ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى ، يقال : فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ . وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ ، وهذا عجيب ، قال رؤبة :
يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً *** فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً