الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ} (96)

قوله : { حَتَّى إِذَا } : قد تقدم الكلام على " حتى " الداخلةِ على " إذا " مشبعاً . وقال الزمخشري هنا : " فإنْ قلت : بمَّ تعلَّقَتْ " حتى " واقعةً غايةً له وأيَّة الثلاث هي ؟ قلت : هي متعلقةٌ ب " حرامٌ " وهي غايةٌ له ؛ لأنَّ امتناعَ رجوعِهم لا يزول حتى تقومَ القيامةُ ، وهي " حتى " التي يُحْكى بعدها الكلامُ ، والكلامُ المحكيُّ هو الجملةُ من الشرطِ والجزاءِ ، أعني " إذا " وما في حيزها " . وأبو البقاء نَحا هذا النحوَ فقال : " وحتى " متعلقةٌ في المعنى ب " حرامٌ " أي : يستمرُّ الامتناع إلى هذا الوقتِ ، ولا عملَ لها في " إذا " .

وقال الحوفي : " هي غايةٌ ، والعاملُ فيها ما دَلَّ عليه المعنى مِنْ تأسُّفِهم على مافَرَّطوا فيه من الطاعةِ حين فاتَهم الاستداركُ " . وقال ابنُ عطية : " حتى " متعلقةٌ بقوله " وتَقَطَّعوا " . وتحتملُ على بعضِ التأويلاتِ المتقدمة أَنْ تتعلَّق ب " يَرْجِعون " ، وتحتمل أَنْ تكونَ حرفَ ابتداءٍ ، وهو الأظهر ؛ بسبب " إذا " ؛ لأنها تقتضي جواباً هو المقصودُ ذِكْرُه " . قال الشيخ : " وكونُ " حتى " متعلقةً ب " تَقَطَّعوا " فيه بُعْدٌ من حيثن كثرةُ الفصلِ لكنه من حيث المعنى جيدٌ : وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحقِّ إلى قُرْب مجيءِ الساعةِ ، فإذا جاءت الساعةُ انقطع ذلك كلُّه " .

وتلخَّصَ في تعلُّق " حتى " أوجهُ ، أحدها : أنها متعلقةٌ ب " حرامٌ " . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى ، وهو قولُ الحوفيِّ . الثالث : أنها متعلقةٌ ب " تَقَطَّعوا " . الرابع : أنها متعلقةٌ ب " يَرْجِعون " . وتلخَّص في " حتى " وجهان ، أحدهما : أنها حرفُ ابتداءٍ وهو قولُ الزمخشري وابنِ عطية فيما اختاره ، الثاني : حرفُ جرّ ، بمعنى إلى .

وقرأ " فُتِّحَتْ " بالتشديد ابنُ عامر . والباقون بالتخفيفِ . وقد تقدَّم ذلك أولَ الأنعام ، وفي جواب " إذا " أوجهٌ أحدُها : أنه محذوفٌ فقدَّره أبو إسحاق : " قالوا يا وَيْلَنا " ، وقدَّره غيرُه : فحينئذٍ يُبعثون . وقوله " فإذا هي شاخصة " عطفٌ على هذا المقدرِ . الثاني : أنَّ جوابَها الفاءُ في قولِه " فإذا هي " قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية . فقال الزمخشري : " وإذا هي المفاجأةُ ، وهي تقع في المجازاة سادَّةً مَسَدَّ الفاءِ كقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }

[ الروم : 36 ] فإذا جاءت الفاءُ معها تعاونَتا على وَصْل الجزاء بالشرط فيتأكَّدُ . ولو قيل : إذا هي شاخصة كان سديداً . وقال ابن عطية : " والذي أقول : إنَّ الجوابَ في قوله " فإذا هي شاخِصَةٌ " ، وهذا هو المعنى الذي قُصِد ذِكْرُه ؛ لأنه رجوعُهم الذي كانوا يُكَذِّبون به وحَرَّم عليهم امتناعَه " .

وقوله : { يَأْجُوجُ } هو على حذفِ مضاف أي : سدٌّ يأجوجَ ومَأْجوجَ . وتقدَّم الكلامُ فيهما قريباً .

قوله : " وهم " يجوز أَنْ يعودَ على يأجوج ومأجوج ، وأن يعودَ على العالَم بأَسْرِهم . والأولُ أظهر .

وقرأ العامَّةُ : " يَنْسِلون " بكسر السين ، وأبو السمَّالِ وابنُ أبي إسحاق بضمها . والحَدَب : النَّشَزُ من الأرض أي : المرتفعُ ، ومنه الحَدَبُ في الظهر وكلُّ كُدْية أو أَكَمَةٍ فهي حَدَبَة ، وبها سُمِّيَ القبرُ لظهورِه على وجه الأرض ، والنَّسَلان مقارَبَةُ الخَطْوِ مع الإِسراعِ ، يُقال : نَسَل ينسِل وينسُل بالفتح في الماضي ، والكسرِ والضم في المضارع ، ونسل وعَسَل واحد ، قال الشاعر :

عَسَلانَ الذئبِ أمسى قارِباً *** بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ

والنَّسْلُ من ذلك وهو الذُّرِّيَّة ، أطلقَ المصدرَ على المَفْعول . و " نَسَلْتُ ريشَ الطائر " من ذلك . وقُدِّمَ الجارُّ على متعلقه لتواخي رؤوسِ الآي . وقرأ عبد الله وابن عباس " جَدَث " بالثاء المثلثة ، وهو القبرُ . وقُرِىء بالفاء وهي بدلٌ منها . قال الزمخشري : " الثاء للحجاز والفاء لتميم " . وينبغي أَنْ يكونا أصلين ؛ لأنَّ كلاً منهما لغةٌ مستقلةٌ ، ولكن قد كَثُر إبدال الثاء من الفاء قالوا : مَعْثُور في مَعْفور ، وقالوا : " فُمَّ " في ثُمَّ ، فأبدلت هذه من هذه تارةً ، وهذه من هذه أخرى .