الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في محل نصبٍ على الحال : إمَّا من ضمير " وُضع " ، وفيه ما تقدَّم من الإِشكال ، وإمَّا من الضميرِ في " ببكة " وهو واضحٌ ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ لذي حالٍ واحدٍ ، وإمَّا مِنَ الضمير في " للعالمين " ، وإمَّا من " هدى " ، وجازَ ذلك لتخصُّصهِ بالوصفِ ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في " مباركاً " . ويجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ في محل نصب نعتاً لهدى بعد نعتِه بالجار قبلَه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب ، وإنما جيء بها بياناً وتفسيراً لبركتِه وهُداه ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الحالُ أو الوصفُ على ما مَرَّ تفصيله هو الجارَّ والمجرورُ فقط ، و " آياتٌ " مرفوعٌ بها على سبيل الفاعلية ، لأنّ الجارَّ متى اعتمد على أشياءَ ذكرتها في أولِ هذا الموضوعِ رَفَع الفاعل ، وهذا أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر ، لأنَّ هذه الأشياءَ ِ أعني الحال والنعت والخبر أصلُها أَنْ تكونَ مفردةً فما قَرُب منها كان أولى ، والجارُّ قريبٌ من المفرد ، ولذلك تقدَّم المفردُ ثم الظرف ثم الجملةُ فيما ذَكَرْتُ ، وعليه الآيةُ الكريمة : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] فقدَّم الوصف بالمفرد وهو " مؤمن " ، وثَنّى بما قَرُب منه وهو " من آل فرعون " ، وثَلَّث بالجملة وهي " يكتم إيمانه " ، وقد جاءَ في الظاهر عكسُ هذا ، وسأُوضِّح هذه المسألة إنْ شاء الله عند قوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ } [ المائدة : 54 ] .

قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فيه أوجه ، أحدها أنَّ " مقام " بدلٌ من " آيات " ، وعلى هذا يُقال : إنَّ النحويين نَصُّوا على أنه متى ذُكِرَ جمعٌ لا يُبْدَلُ منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع فتقول : " مررت/ برجالٍ زيدٍ وعمرٍو وبكر " لأنَّ أقلَّ الجَمْعِ الصحيح ثلاثةٌ ، فإن لم يُوفِّ قالوا : وَجَبَ القطعُ عن البدلية : إمَّا إلى النصب بإضمارِ فعلٍ ، وإمّا إلى الرفعِ على مبتدأٍ محذوفٍ الخبر ، كما تقولُ في المثال المتقدم : " زيداً وعمراً " أي أعني زيداً وعمراً ، أو " زيد وعمرو " أي : منهم زيد وعمرو ، ولذلك أعربوا قولَ النابغة الذبياني :

تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *** لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

رَمادٌ ككحلِ العَيْن لأْياً أُبينه *** ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشعُ

على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونُؤْيٌ ، وكذا قَولُه تعالى : { حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [ البروج : 17-18 ] أي : أعني أو أذُمُّ فرعون وثمود ، على أنه قد يقال : إنَّ المرادَ بفرعون وثمودَ هما ومَنْ تَبِعَهما مِنْ قومهما ، فذكرُهما وافٍ بالجَمْعية ، وفي الآيةِ الكريمةِ هنا لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقَامُ وأَمْنُ داخلِه ، فكيف يكلان بدلاً ؟ وهذا الإِشكالُ أيضاً واردٌ على قول مَنْ جَعَلَه خبرَ مبتدأ محذوف أي : هي مقامُ إبراهيم كيف يُخْبِر عن الجمع باثنين ؟ .

وفيه أجوبةٌ ، أحدُها : أنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما ذهب إليه بعضهم ، قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يُراد : فيه آيات : مقامُ إبراهيم وأمنُ مَنْ دخله ، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة " . الثاني : أن " مقام إبراهيم " وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يَشْتمل على آياتٍ كثيرة ، لأنَّ القدمين في الصخرةِ الصَمَّاءِ آيةٌ ، وغَوْصُهُمَا فيها إلى الكعبين آية ، وإلانَةُ بعضِ الصخرةِ دونَ بعض آية ، وإبقاؤه على مَرّ الزمان ، وحفظُه من الأعداء آية ، واستمرارُه دون آيات سائر الأنبياء خلا نبيِّنا صلى الله عليه وعلى سائرهم آيةٌ ، قال معناه الزمخشري . الثالث : أن يكونَ هذا من باب الطَيّ ، وهو أن يُذْكَرَ جمعٌ ثم يُؤْتَى ببعضِه ويُسْكَتَ على ذِكْر باقيه لغرضٍ للمتكلم ويسمى طَيَّاً ، وأنشد الزمخشري عليه قول جرير :

كانَتْ حُنَيْفَةُ أثلاثاً فثُلْثُهُمُ *** مِنَ العبيدِ وثُلْثٌ مِنْ مَواليها

وأوردَ منه قولَه عليه الصلاة والسلام : " حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكم ثلاثٌ : الطِّيب والنساء ، وقُرَّةُ عيني في الصلاة " ذَكَر اثنين وهما الطِّيب والنساءُ ، وطَوَى ذِكْرَ الثالثة ، لا يقال : إن الثالثة قوله : " وقُرَّةُ عيني في الصلاة " لأنها ليست من دُنْياهم ، إنما هي من الأمورِ الأُخْروية ، وفائدةُ الطيّ عندهم تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لَمَّا ذكر جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثيرٌ سواهما . وقال ابن عطية : " والأرجح عندي أن المَقام وأمنَ الداخلِ جُعلا مثالاً مِمَّا في حَرَم الله تعالى من الآيات ، وخُصَّا بالذكر لعِظَمِهما وأنهما تقومُ بهما الحجةُ على الكفار ، إذ هم مُدْرِكون لهاتين الآيتين بحواسِّهم " .

الوجه الثاني : أن يكونَ " مقامُ إبراهيم " عطفَ بيان ، قاله الزمخشري وردَّ عليه الشيخ هذا مِنْ جهةِ تَخَالُفِهما تَعْريفاً وتنكيراً فقال : " قوله مخالف لإِجماع البصريين والكوفيين فلا يُلتفت إليه ، وحكمُ عطفِ البيان عند الكوفيين حكمُ النعتِ فَيُتْبِعون النكرةَ النكرةَ والمعرفةَ المعرفةَ ، وتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي ، وأمّا البصريون فلا يجوز عندهم إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوزُ أن يكونا نكرتين ، وكلُّ شيء أورده الكوفيون مِمَّا يُوهم جوازَ كونِه عطفاً جعلَه البصريونَ بدلاً ، ولم يَقُمْ دليلٌ للكوفيين " . قلت : وهذه المسألةُ ستأتي إنْ شاءَ اللهُ محررةً عند قوله تعالى : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] وعند قوله تعالى : { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }

[ النور : 35 ] .

ولَمّا أعرب الزمخشري مقامَ إبراهيم وأَمْنَ داخِله بالتأويل المذكور اعتَرَضَ على نفسِه بما ذكرْتُه مِنْ إبدال غيرِ الجمع من الجمعِ ، وأجاب بما تقدَّم ، واعترض أيضاً على نفسه ، بأنه كيف تكون الجملةُ عطفَ بيان للأسماء المفردة ؟ فقال : " فإنْ قلت : كيف أَجَزْتَ أن يكونَ مقامُ إبراهيم والأمنُ عطفَ بيان ، وقولُه { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملةٌ مستأنفةٌ : إمَّا ابتدائيةٌ وإمَّا شرطيةٌ .

قلت : أَجَزْتُ ذلك من حيث المعنى ، لأن قوله { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } دلَّ على أَمْنِ مَنْ دخله ، فكأنه قيل : " فيه آياتٌ بينات : مقامُ إبراهيم وأَمْنُ مَنْ دخله " ألا ترى أنك لو قلت : " فيه آيةٌ بَيِّنَةٌ : مَنْ دَخَله كان آمناً " صَحَّ ، لأن المعنى : فيه آيةٌ بينةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَه " . قال الشيخ : " وليس بواضحٍ لأنَّ تقديرَه وأَمْنُ الداخل هو مرفوعٌ عطفاً على/ " مقام إبراهيم " وفَسَّر بهما الآياتِ ، والجملةُ من قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لا موضعَ لها من الإِعراب فَتدافَعا ، إلاَّ إن اعتقد أن ذلك معطوفٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما بعده ، فيمكن التوجيهُ ، فلا يُجْعَلُ قولُه { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } في معنى " وأَمْنُ داخِلِه " إلا من حيثُ تفسيرُ المعنى لا تفسيرُ الإِعراب " وهي مُشاحَّةٌ لا طائلَ تحتها ، ولا تدافُعَ فيما ذَكَر ، لأنَّ الجملة متى كانَتْ في تأويلِ المفردِ صَحَّ عطفُها عليه ، ثم المختارُ أن يكونَ قولُه " مقام إبراهيم " خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، لا كما قَدَّروه حتى يلزمَ الإِشكالُ المتقدم ، بل تقدِّرُه : أحدها مقام إبراهيم ، وهذا هو الوجه الثالث . و " مَنْ " يجوز أن تكونَ شرطيةً وأن تكون موصولة ، ولا يَخْفى الكلام عليهما ممَّا تقدم .

وقرأ أُبَيٌ وعمرُ وابن عباس وأبو جعفر ومجاهد : " آيةٌ بينة " بالتوحيد ، وتخريجُ " مقام " على الأوجه المتقدمة سهلٌ : مِنْ كونها بدلاً أو بياناً عند الزمخشري ، أو خبرَ مبتدأ محذوف ، وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرةِ مطلقاً ، والكوفيون لا يُبْدِلون منها إلا بشرطِ وصفِها وقد وُصِفَتْ .

قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ } فيه ستة أوجه ، أحدها أنَّ " مَنْ " بدلٌ من " الناس " بدلُ بعضٍ من كل ، وبدلُ البعضِ وبدلُ الاشتمالِ لا بد في كلٍّ منهما مِنْ ضميرٍ يعودُ على المُبْدَلِ منه نحو : أَكْلْتُ الرغيفَ ثلثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس ضميرٌ ، فقيل : هو محذوفٌ تقديره : مَنْ استطاع منهم . الثاني : أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، إذ المرادُ بالناس المذكورين خاصٌّ ، والفرقُ بين هذا الوجهِ والذي قبله أنَّ الذي قبلَه يُقال فيه : عامٌّ مخصوصٌ ، وهذا يُقالُ فيه : عامٌّ أُريد به الخاصُّ ، وهو فرقٌ واضح ، وهاتان العبارتان مأخوذتان مِنْ عبارة الإِمام الشافعي رضي الله عنه . الثالث : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هو مَنْ استطاع . الرابعُ : أنَّها مصدريةٌ بإضمارِ فعلٍ أي : أعني مَن استطاع ، وهذان الوجهان في الحقيقة مأخوذان من وجهِ البدل ، فإنَّ كلَّ ما جاز إبدالُه ممَّا قبله جاز قَطْعُه إلى الرفع أو النصب المذكورين آنفاً . الخامس : أنَّ " مَنْ " فاعلٌ بالمصدرِ وهو " حَجٌّ " والمصدرُ مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يَحُجَّ من استطاع منهم سبيلاً البيتَ ، وهذا الوجه قد رَدَّه جماعة مِنْ حيثُ الصناعةُ ومن حيث المعنى : أمَّا من حيثُ الصناعةُ فلأنه إذا اجتمع فاعلٌ ومفعولٌ مع المصدرِ العامل فيهما فإنما يُضاف المصدرُ لمرفوعِه دونَ منصوبِه فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلت : " ضربُ عمرٍو زيدٌ " لم يَجُزْ إلا في ضرورة كقوله :

أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ *** قَرْعُ القواقيزِ أفواهُ الأباريقِ

يروى بنصب " أفواه " على إضافةِ المصدر وهو " قَرْع " إلى فاعله ، وبالرفعِ على إضافته إلى مفعولِه ، وقد جَوَّزه بعضُهم في الكلامِ على ضَعْفٍ ، والقرآنُ لا يُحْمَلُ على ما في الضرورةِ ولا على ما فيه ضعف . وِأما من حيث المعنى فلأنه يؤدِّي إلى تكليفِ الناس جميعِهم مستطيعهم وغيرِ مستطعيعهم أن يَحُجَّ مستطيعُهم ، فيلزمُ من ذلك تكليفُ غيرِ المستطيعِ بأن يَحُجَّ المستطيعُ وهو غيرُ جائزٍ ، وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم نقول بموجبه ، وأن الله تعالى كَلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يُحَجَّ المستطيعون لَزِم غيرُ المستطيعين أن يأمروهم بالحج حَسْبَ الإِمكان ؛ لأن إحجاج الناسِ إلى الكعبة وعرفَة فرضٌ واجبٌ . و " مَنْ " على الأوجهِ الخمسة موصولةٌ بمعنى الذي . السادس : أنها شرطيةٌ والجزاءُ محذوفٌ يدل عليه ما تقدَّم أو هو نفسُ المتقدمِ على رَأْي ، ولا بُدَّ من ضميرٍ يعود مِنْ جملةِ الشرطِ على الناسِ تقديرُه : مَنِ استطاعَ منهم إليه سبيلاً فلله عليه أن يَحُجَّ ، ويترجَّحُ هذا بمقابلتِه بالشرطِ بعدَه وهو قولُه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .

وقوله : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } جملةٌ من مبتدأ وخبر وهو قوله " لله " ، و " على الناس " متعلقٌ بما تَعَلَّق [ به ] الخبر/ أو متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجار ، والعامل فيه أيضاً ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكونَ " على الناس " هو الخبرَ ، و " لله " متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ ، ويمتنع فيه أن يكونَ حالاً من الضمير في " على الناس " وإن كان العكسُ جائزاً كما تقدم ، والفرقُ أنه يلزم هنا تقديمُ الحالِ على العاملِ المعنوي ، والحالُ لا تتقدَّم على العامل المعنوي بخلافِ الظرف وحرفِ الجر فإنهما يتقدَّمان على عامِلهما المعنوي للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك يُجَوِّزُ تقديمها على العامل المعنوي إذا كانت هي ظرفاً أو حرف جر والعاملُ كذلك ، ومسألتنا في الآيةِ الكريمةِ من هذا القبيل .

وقرأ الأخوان وحفص عن عاصم : " حِج " بكسر الحاء ، والباقون بفتحها ، فقيل : لغتان بمعنى ، والكسرُ لغة نجد والفتح لغة أهل العالية ، وفَرَّق سيبويه فَجَعَلَ المكسور مصدراً أو اسماً للعمل ، وأما المفتوحُ فمصدرٌ فقط .

وقد تقدَّم في البقرة أنه قرىء في الشاذ بكسر الحاء ، وتكلَّمْتُ هناك على هاتين اللفظتين وما ذَكَرَ الناسُ فيهما واشتقاقِ المادة فأغنى عن إعادتِهِ ولله الحمد والمِنَّةُ .

وقد جِيء في هذه الآية بمبالغاتٍ كثيرة منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يعني أنه حَقٌّ واجبٌ عليهم لله في زمانهم لا ينفكُّون عن أدائِهِ والخروجِ عن عُهْدَتِهِ . ومنها أنه ذَكَرَ " الناس " ثم أَبْدل منهم { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وفيه ضربان من التأكيدِ ، أحدُهما : أنَّ الإِبدالَ تثنيةُ المرادِ وتكريرٌ له ، والثاني : أن التفصيلَ بعد الإِجمال والإِيضاحَ بعد الإِبهام إيرادٌ في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري على عادةِ فصاحتِهِ وتخليصِهِ المعنى بأقرب لفظ .

والألفُ واللام في " البيت " للعهدِ لتقدُّم ذِكْرِه ، وهو عَلَمٌ بالغلَبَة كالثريا والصَّعِق ، فإذا قيل " زار البيت " لم يتبادرِ الذهنُ إلا إلى الكعبة شَرَّفها الله تعالى ، وقال الشاعر :

لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أهلَه *** وأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بالأَصائلِ

أنشد الشيخُ هذا البيتَ في هذا المَعْرِضِ وفيه نظرٌ ، إذ ليس في الظاهرِ الكعبةُ . والضمير في " إليه " الظاهرُ عَوْدُهُ على الحج لأنه مُحَدَّثٌ عنه ، والثاني : عَوْدُه على البيت " وإليه " متعلِّقٌ باستطاع ، و " سبيلا " مفعولٌ به لأنَّ " استطاع " متعدٍّ ، قال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } [ الأعراف : 197 ] إلى غيره من الآيات .

قوله : { وَمَن كَفَرَ } يجوزُ أَنْ تكونَ الشرطيةَ وهو الظاهرُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ ، ودَخَلَتِ الفاءُ شَبهاً للموصولِ باسمِ الشرطِ وقد تقدَّم تقريرهُ غيرَ مرةٍ ، ولا يَخْفَى حالُ الجملتين بعدَها بالاعتبارين المذكورين . ولا بُدَّ من رابطٍ بين الشرطِ وجزائِهِ أو المبتدأ وخبرِهِ ، ومَنْ جَوَّز إقامةَ الظاهِرِ مُقامَ المُضْمَرِ اكتفى بذلك في قوله : { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } كأنه قال : غني عنهم .