البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ} (32)

الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم :

إنك لا تمد إلينا شبراً من غدر *** إلا مددنا لك باعاً من ختر

وقال عمرو بن معدي كرب :

وإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى :

فالأيلق الفرد من تيماء منزله *** حصن حصين وجار غير ختار

وقوله : { وإذا غشيهم } ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في { ليريكم } إلى ضمير الغيبة في { غشيهم } .

و { موج } : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث ، فهو يدل على الجمع ، ولذلك شبهه بالجمع .

{ فمنهم مقتصد } ، قال الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم .

وقال مجاهد : مقتصد على كفره : أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة ، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها .

قيل : أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر .

قال الزمخشري : يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط . انتهى .

وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفاً ، والعامل فيه غير ماضٍ ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك .

فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره : ومنهم جاحد ودل عليه ، قوله : { وما يجحد بآياتنا } .

وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه : مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موف بما عاهد الله عليه في البحر ، وختم هنا ببنيتي مبالغة ، وهما : { ختار } ، و { كفور } .

فالصبار الشكور معترف بآيات الله ، والختار الكفور يجحد بها .

وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً .

أما لفظاً فظاهر ، وأما معنىً فالختار هو الغدار ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبارّ يفوّض أمره إلى الله ، وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر على العهد : وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة .