البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

التبرج ، قال الليث : تبرجت : أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ، ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر . وقال أبو عبيدة : تخرج محاسنها مما تستدعي به شهوة الرجال ، وأصله من البرج في عينه وفي أسنانه ، برج : أي سعة .

وقرأ الجمهور : وقِرن ، بكسر القاف ، من وقر يقر إذا سكن وأصله ، أوقرن ، مثل عدن من وعد .

وذكر أبو الفتح الهمداني ، في كتاب التبيان ، وجهاً آخر قال : قار يقار ، إذا اجتمع ، ومنه القارة لاجتماعها .

ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة ؟ فالمعنى : اجمعن أنفسكن في بيوتكن .

{ وقرن } : أمر من قار ، كما تقول : خفن من خاف ؛ أو من القرار ، تقول : قررت بالمكان ، وأصله : واقررت ، حذفت الراء الثانية تخفيفاً ، كما حذفوا لام ظللت ، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل .

وقال أبو علي : أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف ، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها .

انتهى ، وهذا غاية في التحميل كعادته .

وقرأ عاصم ونافع : بفتح القاف ، وهي لغة العرب ؛ يقولون : قررت بالمكان ، بكسر الراء وبفتح القاف ، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما ، وأنكرها قوم ، منهم المازني ، وقالوا : بكسر الراء ، من قرت العين ، وبفتحها من القرار .

وقرأ ابن أبي عبلة : واقررن ، بألف الوصل وكسر الراء الأولى .

وتقدم لنا الكلام على قررت ، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة .

أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى ، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان .

وقيل لسودة : لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها .

{ ولا تبرجن } ، قال مجاهد وقتادة : التبرج : التبختر والتغنج والتكسر .

وقال مقاتل : تلقي الخمار على وجهها ولا تشده .

وقال المبرد : تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره .

و { الجاهلية الأولى } : يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة .

فقيل : هما ابنان لآدم ، سكن أحدهما الجبل ، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح ؛ والآخر السهل ، وأولاده على عكس ذلك .

فسوى لهم إبليس عيداً يجتمع جميعهم فيه ، فمال ذكور الجبل إلى إناث السهل وبالعكس ، فكثرت الفاحشة ، فهو تبرج الجاهلية الأولى .

وقال عكرمة والحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، كان الرجال صباحاً والنساء قباحاً ، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها .

وقال ابن عباس أيضاً : الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح ، كانت ألف سنة ، تجمع المرآة بين زوج وعشيق .

وقال الكلبي وغيره : ما بين نوح وإبراهيم .

قال مقاتل : زمن نمروذ ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق .

وقال الزمخشري : والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء ، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم .

كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال .

وقال أبو العالية : من داود وسليمان ، كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين ، يظهر منه الأكعاب والسوأتان .

وقال المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها ، للزوج نصفها الأسفل ، وللحلم نصفها ، يتمتع به في التقبيل والترشف .

وقيل : ما بين موسى وعيس .

وقال الشعبي : ما بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام .

وقال مقاتل : الأولى زمن إبراهيم ، والثانية زمن محمد عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يبعث .

وقال الزجاج : الأشبه قول الشعبي ، لأنهم هم الجاهلية المعروفون ، كانوا يتخذون البغايا .

وإنما قيل الأولى ، لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى ، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم أولى ، وهم أول من أمة محمد ، عليه الصلاة والسلام .

وقال عمر لابن عباس : وهل كانت الجاهلية إلا واحدة ؟ فقال ابن عباس : وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة ؟ فقال عمر : لله درك يا ابن عباس .

وقال الزمخشري : والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام .

ويجوز أن يكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، فكان المعنى : ولا يجدكن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر .

ويعضده ما روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لأبي الدرداء : «إن فيك جاهلية » ، قال : جاهلية كفر أم إسلام ؟ فقال : «بل جاهلية كفر » " انتهى .

والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال : " إنك امرؤ فيك جاهلية " ، لأبي ذر ، رضي الله عنه .

وقال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها ، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر ، ولأنهم كانوا لا غيرة عندهم ، وكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى .

وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء .

وقال ابن عباس في البخاري : سمعت ، أي في الجاهلية إلى غير هذا . انتهى .

{ وأقمن الصلاة } : أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ، إذ هما عمودا الطاعة البدنية والمالية ، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة ، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى .

واستعار الرجس للذنوب ، والطهر للتقوى ، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس .

وأما الطاعات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه ، وترغيب فيما أمر به .

والرجس يقع على الإثم ، وعلى العذاب ، وعلى النجاسة ، وعلى النقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت .

وقال الحسن : الرجس هنا : الشرك .

وقال السدي : الإثم .

وقال ابن زيد : الشيطان .

وقال الزجاج : الفسق ؛ وقيل : المعاصي كلها ، ذكره الماوردي .

وقيل : الشك ؛ وقيل : البخل والطبع ؛ وقيل : الأهواء والبدع .

وانتصب أهل على النداء ، أو على المدح ، أو على الاختصاص ، وهو قليل في المخاطب ، ومنه :

بل الله نرجو الفضل . . .

وأكثر ما يكون في المتكلم ، وقوله :

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن ، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في : { عنكم } ، { ويطهركم } .

وقول عكرمة ، ومقاتل ، وابن السائب : أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد ، إذ لو كان كما قالوا ، لكان التركيب : عنكن ويطهركن ، وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس ، فلعله لا يصح عنه .

وقال أبو سعيد الخدري : هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين .

وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة .

وقال الضحاك : هم أهله وأزواجه .

وقال زيد بن أرقم ، والثعلبي : بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، ويظهر أنهم زوجاته وأهله ، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت ، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته ، عليه الصلاة والسلام .

وقال ابن عطية : والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة ، فأهل البيت : زوجاته وبنته وبنوها وزوجها .

وقال الزمخشري : وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته .