البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لِّيَسۡـَٔلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا} (8)

واللام في { ليسأل } ، قيل : يحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا ، والظاهر أنها لام كي ، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين : فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة ، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها على ذلك ؛ وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب .

فالصادقون على هذا المسؤولون هم : المؤمنون .

والهاء في { صدقهم } عائدة عليهم ، ومفعول { صدقهم } محذوف تقديره : عن صدقهم عهده .

أو يكون { صدقهم } في معنى : تصديقهم ، ومفعوله محذوف ، أي عن تصديقهم الأنبياء ، لأن من قال للصادق صدقت ، كان صادقاً في قوله .

أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم ، حكاه علي بن عيسى ؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة ؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، قاله مجاهد ، وفي هذا تنبيه ، أي إذا كان الأنبياء يسألون ، فكيف بمن سواهم ؟ وقال مجاهد أيضاً : { ليسأل الصادقين } ، أراد المؤدين عن الرسل . انتهى .

وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم ، كما قال تعالى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وقال تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } { وأعد } : معطوف على { أخذنا } ، لأن المعنى : أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين .

{ وأعد للكافرين عذاباً أليماً } ، أو على ما دل عليه : { ليسأل الصادقين } ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين ، قالهما الزمخشري .

ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون ، وهم المؤمنون ، وذكرت العلة ؛ وحذف من الثاني العلة ، وذكر ما عوقبوا به .

وكان التقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم ، فأثابهم ؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم ، كقوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ، فعميت عليهم الانباء } و { أعد لهم عذاباً أليماً } فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول ، وهذه طريقة بليغة ، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } وأمعنا الكلام هناك .