البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

الحنجرة : رأس الغلصمة ، وهي منتهى الحلقوم ؛ والحلقوم : مدخل الطعام والشراب .

{ من فوقكم } : من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان ، { ومن أسفل منكم } : من أسفل الوادي منه قبل المغرب ، وقريش تحزبوا وقالوا : نكون جملة حتى نستأصل محمداً .

وقال مجاهد : { من فوقكم } ، يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، و { من أسفل منكم } ، يريد مكة وسائر تهامة ، وهو قول قريب من الأول .

وقيل : إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة ، وطائفة في أسفلها ، وهذا قريب من القول الأول ، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة ، أي جاءوكم من جميع الجهات ، كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم ، كقوله : { يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } المعنى : يغشاهم محيطاً بجميع أبدانهم .

وزيغ الأبصار : ميلها عن مستوى نظرها ، فعل الواله الجزع .

وقال الفراء : زاغت من كل شيء ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها .

وبلوغ القلب الحناجر : مبالغة في اضطرابها ووجيبها ، دون أن تنتقل من مقرها إلى الحنجرة .

وقيل : بحت القلوب من شدة الفزع ، فيتصل وجيبها بالحنجرة ، فكأنها بلغتها .

وقيل : يجد خشونة وقلبه يصعد علواً لينفصل ، فالبلوغ ليس حقيقة .

وقيل : القلب عند الغضب يندفع ، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة .

وقيل : يفضي إلى أن يسد مخرج النفس ، فلا يقدر المرء أن يتنفس ، ويموت خوفاً ، ومثله : { إذ القلوب لدى الحناجر } وقيل : إذا انتفخت الرئة من شدّة الفزع والغضب ، أو الغم الشديد ، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان ، انتفخ سحره .

والظنون : جمع لما اختلفت متعلقاته ، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته ، وينقاس عند غيره ، وقد جاء الظنون جمعاً في أشعارهم ، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :

إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا

فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله من النصر حق ، وأنهم يستظهرون ؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه ، والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون ، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في { وتظنون } .

وقال الحسن : ظنوا ظنوناً مختلفة ، ظن المنافقون أن المسليمن يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم يبتلون .

وقال ابن عطية : أي يكادون يضطربون ، ويقولون : ما هذا الخلف للوعد ؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين ، لا يمكن البشر دفعها .

وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا .

وقال الزمخشري : ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتليهم ويفتنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ؛ والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم ، وكتب : الظنونا والرسولا والسبيلا في المصحف بالألف ، فحذفها حمزة وأبو عمرو وقفاً ووصلاً ؛ وابن كثير ، والكسائي ، وحفص : بحذفها وصلاً خاصة ؛ وباقي السبعة : بإثباتها في الحالين .

واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف ، ولا يوصل ، فيحذف أو يثبت ، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ، ولأن إثباتها الوصل معدوم في لسان العرب ، نظمهم ونثرهم ، لا في اضطرار ولا غيره .

أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب ، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها ، والفواصل في الكلام كالمصارع .

وقال أبو علي : هي رؤوس الآي ، تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، كما كانت القوافي مقاطع .