البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

الجار : القريب المسكن منك ، وألفه منقلبة عن واو لقولهم : جاورت ، ويجمع على جيران وجيرة .

والجنب : البعيد .

والجنابة البعد قال :

فلا تحرمني نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤ وسط القباب غريب

وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الرجل جانباً .

وقال تعالى : { واجنبني } أي بعدني ، وهو وصف على فعل كناقة سرح .

المختال : المتكبر ، وهو اسم فاعل من اختال ، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم : الخيلاء والمخيلة .

ويقال : خال الرجل يخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، فتكون هذه مادة أخرى ، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل ، وهذه مادة من خ و ل .

الفخور : فعول من فخر ، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول .

{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين } مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن ، وبإنفاق أموالهم ، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواماً على غيرهن ، أوضح أنه مع كونه قواماً على النساء هو أيضاً مأمور بالإحسان إلى الوالدين ، وإلى من عطفه على الوالدين .

فجاءت حثاً على الإحسان ، واستطراداً لمكارم الأخلاق .

وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط ، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم .

وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة ، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه .

ونظير : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً } وتقدم شرح قوله : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين } إلا أن هنا وبذي ، وهناك وذي ، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة ، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة ، ولم يبالغ في حق تلك ، لأنها في حق بني إسرائيل .

والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها ، إذ هي خير أمة أخرجت للناس .

وقرأ ابن أبي عبلة : وبالوالدين إحسان بالرفع ، وهومبتدأ و خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر ، وإن كان جملة خبرية نحو قوله :

فصبر جميل فكلانا مبتلي *** { والجار ذي القربى } قال ابن عباس : ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين : هو الجار القريب النسب ، والجار الجنب هو الجار الأجنبي ، الذي لا قرابة بينك وبينه .

وقال بلعاء بن قيس :

لا يجتوينا مجاور أبدا *** ذو رحم أو مجاور جنب

وقال نوف الشامي : هو الجار المسلم .

{ والجار الجنب } هو : الجار اليهودي ، والنصراني .

فهي عنده قرابة الإسلام ، وأجنبية الكفر .

وقالت فرقة ، هو الجار القريب المسكن منك ، والجنب هو البعيد المسكن منك .

كأنه انتزع من الحديث الذي فيه : إن لي جارين فإلى أهيما أهدي ؟ قال : « إلى أقربهما منك باباً » وقال ميمون بن مهران : والجار ذي القربى أريد به الجار القريب .

قال ابن عطية : وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكان وجه الكلام : وجار ذي القربى انتهى .

ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعاً بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله : ذي القربى بدلاً من قوله : والجار ، على حذف مضاف التقدير : والجار جار ذي القربى ، فحذف جار لدلالة الجار عليه ، وقد حذفوا البدل في مثل هذا .

قال الشاعر :

رحم الله أعظما دفنوها *** بسجستان طلحة الطلحات

يريد : أعظم طلحة الطلحات .

ومن كلام العرب : لو يعلمون العلم الكبيرة سنة ، يريدون : علم الكبيرة سنة .

والجنب : هو البعيد ، سمي بذلك لبعده عن القرابة .

وقال : فلا تحرمني نائلاً عن جنابة .

والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محلة ، أو مدينة ، أو كينونة أربعين داراً من كل جانب ، أو يعتبر بسماع الأذان ، أو بسماع الإقامة ، أقوال أربعة ثانيها : قول الأوزاعي .

وروى في ذلك حديثاً أنه عليه الصلاة والسلام « أمر مناديه ينادي : » ألا إنَّ أربعين داراً جوار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه « والمجاورة مراتب ، بعضها ألصق من بعض ، أقربها الزوجة .

قال الأعشى :

أجارتنا بيني فإنك طالقة *** وقرئ : والجار ذا القربى .

قال الزمخشري : نصباً على الاختصاص كما قرئ { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } تنبيهاً على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : والجار الجنُب بفتح الجيم وسكون النون ، ومعناه البعيد .

وسئل أعرابي عن الجار الجنْب فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه .

{ والصاحب بالجنب } قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : هو الرفيق في السفر .

وقال علي وابن مسعود والنخعي ، وابن أبي ليلى : الزوجة .

وقال ابن زيد : هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه .

وقال الزمخشري : هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر ، وإما جاراً ملاصقاً ، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجداً ، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه ، وتجعله ذريعة للإحسان .

وقال مجاهد أيضاً : هو الذي يصحبك سفراً وحضراً .

وقيل : الرفيق الصالح .

{ وابن السبيل } تقدّم شرحه .

{ وما ملكت أيمانكم } قيل : ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } وقيل : لأنها أعم من من ، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم ، والحيوانات غير الارقاء أكثر في يد الإنسان من الارقاء ، فغلب جانب الكثرة ، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره .

وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالارقاء خيراً في صحيح مسلم وغيره .

ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال : الجار ذو القربى هو القلب ، والجار الجنب النفس ، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة .

{ إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين : الاختيال وهو التكبر ، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس .

لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه .

وقال أبو رجاء الهروي : لا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً .

قال الزمخشري : والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ، فلا يحتفى بهم ، ولا يلتفت إليهم .

وقال غيره : ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء ، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم ، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله ، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى .

وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيهاً على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر يأنف من الإحسان للأصناف المذكورين ، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين .

والذي يظهر لي أنّ مساقهما غير هذا المساق الذي ذكروه ، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم ، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهواً وخيلاء ، وافتخاراً بما صدر منه من الإحسان .

وكثيراً ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به ، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع ، وأن لا يرى لنفسه شفوفاً على من أحسن إليه ، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين .

وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى ، وبالإحسان إلى الوالدين .

ومن ذكر معهما : ونهوا عن الخيلاء والفخر ، فكأنه قيل : ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً .

إلا أنّ ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعاً مما قبله ، أما إن كان متصلاً بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون ، ويأتي إعراب الذين يبخلون ، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه ، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى .

/خ39