البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرّد بني إسرائيل وعصيانهم ، أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتوّ وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سنّ القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه ، ومن حيث المعصية بهما .

وأيضاً فتقدم قوله أوائل الآيات { إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } وبعده { قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } وقوله : { نحن أبناء الله وأحباؤه } ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أنّ عدم اتباع بني إسرائيل محمداً صلى الله عليه وسلم إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه .

وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ، ومن الأخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ، ودعواه مع المعصية ، ومن القتل ، ومن الحسد .

ومعنى واتل عليهم : أي اقرأ واسرد ، والضمير في عليهم ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولاً ، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول .

والمؤمنين فاعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي ، لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوّة .

والنبأ : هو الخبر .

وابنا آدم في قول الجمهور عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه .

وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل .

قال : لأن القربان إنما كان مشروعاً في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ، ووهم الحسن في ذلك .

وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب ؟ وأيضاً فقد قال الرسول عنه : « إنه أول من سن القتل » وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل .

ويحتمل قوله : بالحق ، أن يكون حالاً من الضمير في : واتل أي : مصحوباً بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى .

ولا يجوز ما ذكر ، لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان ، ونبأ ليس بزمان .

وقد طوّل المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه : أنّ حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ، وكان آدم يزوّج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توءمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها اقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوّج توءمته لا توءمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثاراً لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل : أمرهما آدم بتقريب القربان .

وقيل : تقرباً من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائباً توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه .

والقربان الذي قرباه : هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابل وكان صاحب غنم ، فتقبل من أحدهما وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل .

أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل .

وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء .

وقال الزمخشري : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب انتهى .

وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة ، لاتحاد فاعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ، ومن الآخر انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش .

{ قال لأقتلنك } هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكداً بالقسم المحذوف أي : لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي .

وقرأ زيد بن علي : لأقتلنك بالنون الخفيفة .

{ قال إنما يتقبل الله من المتقين } قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ؟ أما أني أتقيه ؟ وكتب علي : لأحب الخلق إنما يتقبل الله من المتقين ، وخطب الزمخشري هنا فقال : ( فإن قلت ) : كيف كان قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، جواباً لقوله : لأقتلنك ؟ ( قلت ) : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني ؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ، فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان .

وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم .

وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت : قال : إني أسمع الله يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } انتهى كلامه .

ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولاً كاف وهو : أنّ المعنى لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقياً ، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها الله تعالى ، وقصد خلافها ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله .

قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة .

وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة .

وقول من زعم أن قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، ليس من كلام المقتول ، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضاً بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في قال على الله ليس بظاهر .