البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

{ قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } الخطاب بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ، هذا هو الظاهر .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي : قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى .

فعلى هذا الإضمار يكون قوله : بشرّ أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف ، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف ، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين ، وإن كان الضمير خطاباً لأهل الكتاب ، فيكون شرّ على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا : ما نعلم ديناً شرًّا من دينكم .

وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب ، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين ، أو حال أهل الكتاب ، فيحتاج إلى حذف مضاف : إما قبله ، وإما بعده .

فيقدر قبله : بشرّ من أصحاب هذه الحال ، ويقدر بعده : حال من لعنه الله ولكون { لعنه الله } إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر ، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة ، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال : بشرّ من أولئكم ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، لا قبل اسم الإشارة ، ولا بعده ، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص .

ويحتمل أن يكون ذلكم أيضاً إشارة إلى متشخص ، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال : قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي ، أو من جنس المؤمن ، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا ، ويكون أيضاً من لعنه الله تفسير شخص بشخص .

وقرأ النخعي وابن وثاب : أنبئكم من أنبأ ، وابن بريدة ، والأعرج ، ونبيج ، وابن عمران : مثوبة كمعورة .

والجمهور : من نبأ ومثوبة كمعونة .

وتقدّم توجيه القراءتين في { لمثوبة من عند الله } وانتصب مثوبة هنا على التمييز ، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله : { ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } وهذه المثوبة هي في الحشر يوم القيامة .

فإن لوحظ أصل الوضع فالمعنى مرجوعاً ، ولا يدل إذ ذاك على معنى الإحسان .

وإن لوحظ كثرة الاستعمال في الخير والإحسان ، فوضعت المثوبة هنا موضع العقوبة على طريقة بينهم في : « تحية بينهم ضرب وجيع » { فبشرهم بعذاب أليم } ومن في موضع رفع كأنه قيل : من هو ؟ فقيل : هو من لعنه الله .

أو في موضع جر على البدل من قوله : بشر .

وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي : أنبئكم من لعنه الله .

ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم ، أو الأسلاف والأخلاف ، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم .

والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على الوصف الذي حصل به كونه شراً مثوبة ، وهي اللعنة والغضب .

وجعل القردة والخنازير منهم ، وعبد الطاغوت ، وكأنه قيل : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي : هو أنتم .

ويدل على هذا المعنى قوله بعد : { وإذا جاءُوكم قالوا آمنا } فيكون الضمير واحداً .

وقرأ أبي وعبد الله : من غضب الله عليهم ، وجعلهم قردة وخنازير ، وجعل هنا بمعنى صير .

وقال الفارسي : بمعنى خلق ، لأن بعده وعبد الطاغوت ، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحداً عابد طاغوت .

وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة .

وأما الذين مسخوا خنازير فقيل : شيوخ أصحاب السبت ، إذ مسح شبانهم قردة قاله : ابن عباس .

وقيل : أصحاب مائدة عيسى .

وذكرت أيضاً قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها : أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه ، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون ، وتنفلت هي ، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها ، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتاً لها على دينها ، فلما رأتهم قالت : اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره ، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة ، وتقدم تفسير الطاغوت .

وقرأ جمهور السبعة : وعبد الطاغوت .

وقرأ أبيّ : وعبدوا الظاغوت .

وقرأ الحسن في رواية : وعبد الطاغوت بإسكان الباء .

وخرجه ابن عطية : على أنه أراد وعبداً منوّناً فحذف التنوين كما حذف في قوله : { ولا ذاكر الله إلا قليلاً } ولا وجه لهذا التخريج ، لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت ، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتحها كقولهم : في سلف سلف .

وقرأ ابن مسعود في رواية : عُبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي : صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله : ابن عطية : وقال الزمخشري : أي صار معبوداً من دون الله كقولك : أمر إذا صار أميراً انتهى .

وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون ، وعبد الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضرب زيد .

وقرأ عبد الله في رواية : وعبدت الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضربت المرأة .

فهذه ست قراءآت بالفعل الماضي ، وإعرابها واضح .

والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه ، وغضب ، وجعل ، وعبد ، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي : وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم .

ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلاً في الصلة ، لكنه على تقدير من ، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ ، ومن عبد فإما عطفاً على القردة والخنازير ، وإما عطفاً على من قوله : من لعنه الله .

وقرأ أبو واقد الأعرابي : وعباد الطاغوت جمع عابد ، كضرّاب زيد .

وقرأ ابن عباس في رواية ، وجماعة ، ومجاهد ، وابن وثاب : وعبد الطاغوت جمع عبد ، كرهن ورهن .

وقال ثعلب : جمع عابد كشارف وشرف .

وقال الزمخشري تابعاً للأخفش : جمع عبيد ، فيكون إذ ذاك جمع جمع وأنشدوا :

أنسب العبد إلى آبائه *** اسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره : وعبد الطاغوت جمع عابد ، كضارب وضرب .

وقرأ بعض البصريين : وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام ، أو جمع عبد .

أنشد سيبويه :

أتوعدني بقومك يا ابن حجل *** اسابات يخالون العبادا

وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى : عباداً .

وقرأ ابن عباس في رواية : وعبيد الطاغوت جمع عبيد ، نحو كلب وكليب .

وقرأ عبيد بن عمير : وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس .

وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد ، كفاجر وفجرة ، وحذف التاء للإضافة ، أو اسم جمع كخادم وخدم ، وغائب وغيب .

وقرئ : وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة ، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفاً على القردة والخنازير مضافاً إلى الطاغوت .

وقرئ وعابدي .

وقرأ ابن عباس في رواية : وعابدوا .

وقرأ عون العقيلي : وعابد ، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد .

وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت ، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير ، وبالواو عطفاً على من لعنه الله أو على إضمارهم .

ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفرداً اسم جنس .

وقرأ أبو عبيدة : وعابد على وزن ضارب مضافاً إلى لفظ الشيطان ، بدل الطاغوت .

وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على وزن كلب .

وقرأ عبد الله في رواية : وعبد على وزن حطم ، وهو بناء مبالغة .

وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة : وعبد على وزن يقظ وندس ، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت .

وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء .

قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز .

وقال الفراء : إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه ، وإلا فلا يجوز في القراءة .

وقال أبو عبيد : إنما معنى العبد عندهم إلا عبد ، يريدون خدم الطاغوت ، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما هو عبد وأعبد بالألف .

وقال أبو علي : ليس في أبنية المجموع مثله ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، وهو بناء يراد به المبالغة ، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت .

وقال الزمخشري : ومعناه العلو في العبودية كقولهم : رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة .

قال الشاعر :

أبني لبيني أن أمكم *** أمة وإن أباكم عبد

انتهى .

وقال ابن عطية : عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس ، وبنى بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة .

وأنشد أبني لبيني البيت ، وقال : ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى .

وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال : ومنها فعل كنحو سمر وعبد .

وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة : وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب ، ونصب الطاغوت أراد عبداً منوناً فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال : { ولا ذاكر الله إلا قليلاً } فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد ، تكون اثنين وعشرين قراءة .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوها ، والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم : { واجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } انتهى .

وهذا على طريق المعتزلة ، وتقدم تفسير الطاغوت .

وقرأ الحسن : الطواغيت .

وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون : يا أخوة القردة والخنازير ، فينكسون رؤوسهم .

{ أولئك شر مكاناً } الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها ، وانتصب مكاناً على التمييز .

فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة ، إذ هو جهنم ، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله : أولئك شر ، لدخوله في ياب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول ، وهو مكان المؤمنين ، ولا شر في مكانهم .

وقال الزجاج : شر مكاناً على قولكم وزعمكم .

وقال النحاس : أحسن ما قيل شرّ مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا ، لما يلحقكم من الشر .

وقال ابن عباس : مكانهم سقر ، ولا مكان أشد شراً منه .

والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار ، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيء غيرهم كثرة ، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان ، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل ، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة ، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار .

{ وأضل عن سواء السبيل } أي عن وسط السبيل ، وقصده : أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق .