البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ} (14)

{ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } : تقدم أنه أبو جهل .

قال ابن عطية : ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل ، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انتهى .

وفي الكشاف ، وقال الحسن : هو أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة .

وقال التبريزي : المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر .

قيل : هي أول جماعة أقيمت في الإسلام ، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين ، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر ، فقال له : صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً ، وأنشأ أبو طالب يقول :

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمّي من بينهم وأبي

ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .

والخطاب في { أرأيت } الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذا { أرأيت } الثاني ، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم .

وقيل : { أرأيت } خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال : أرأيت يا كافر ، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى ، أتنهاه مع ذلك ؟ والضمير في { إن كان } ، وفي { إن كذب } عائد على الناهي .

وقال ابن عطية : الضمير في { إن كان على الهدى } عائد على المصلي ، وقاله الفراء وغيره .

قال الزمخشري : ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح ، كما نقول نحن . { ألم يعلم بأن الله يرى } ، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة ، فيجازيه على حسب ذلك ، وهذا وعيد ، انتهى .

قال الفراء : المعنى { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } ، وهو على الهدى وأمر بالتقوى ، والناهي مكذب متول عن الذكر ، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله ؟ فهذا تقرير وتوبيخ ، انتهى .

وقال : من جعل الضمير في { إن كان } عائداً على المصلي ، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى ، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن : الصلاة والدعاء إلى الله تعالى ، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين : إصلاح نفسه بفعل الصلاة ، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى .

وقال ابن عطية : { ألم يعلم بأن الله يرى } : إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها ، يجاء بها في نسق .

ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً ، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وألم يعلم دال عليها مغن .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما متعلق { أرأيت } ؟ قلت : { الذي ينهى } مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين .

فإن قلت : فأين جواب الشرط ؟ قلت : هو محذوف تقديره : { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } ، { ألم يعلم بأن الله يرى } ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني .

فإن قلت : فكيف صح أن يكون { ألم يعلم } جواباً للشرط ؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني ؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه ؟ فإن قلت : فما { أرأيت } الثانية وتوسطها بين مفعولي { أرأيت } ؟ قلت : هي زائدة مكررة للتوكيد ، انتهى .

وقد تكلمنا على أحكام { أرأيت } بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام ، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل .

وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه ، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد ، والموصول هو الآخر ، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية ، كقوله : { أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب } { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب } { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه } وهو كثير في القرآن ، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون ، ويجعل مفعول { أرأيت } الأولى هو الموصول ، وجاء بعده { أرأيت } ، وهي تطلب مفعولين ، وأرأيت الثانية كذلك ؛ فمفعول { أرأيت } الثانية والثالثة محذوف يعود على { الذي ينهى } فيهما ، أو على { عبداً } في الثانية ، وعلى { الذي ينهى } في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير ، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب ، فنقول : حذف المفعول الثاني لأرأيت ، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه .

حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه .

وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول ، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر .

وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع ، لأن الجمل لا يصح إضمارها ، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع .

وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء ، فلا أعلم أحداً أجازه ، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر .