{ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } : أي إذا نطقتم فوق صوت النبيّ إذا نطق .
{ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } : أي إذا ناجيتموه فلا تجهروا في محادثتكم معه كما تجهرون فيما بينكم إجلالا له صلى الله عليه وسلم وتوقيراً وتقديراً .
{ أن تحبط أعمالكم } : أي كراهة أن تبطل أعمالكم فلا تُثابون عليها .
{ وأنتم لا تشعرون } : بحبوطها وبطلانها . إذ قد يصحب ذلك استخفاف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لا سيما إذا صاحب ذلك إهانة وعدم مبالاة فهو الكفر والعياذ بالله .
أما الآية الثانية ( 2 ) وهي قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فإِنها تطالب المسلم بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولا نهاهم رضي الله عنهم عن رفع أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم تحدثوا معه وأوجب عليهم إجلال النبي وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون صوت أحدهم إذا تكلم مع رسول الله أخفض من صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا كلّم رسول الله يساره الكلام مسارة وثانيا نهاهم إذا هم ناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض بل يجب عليهم توقيره وتعظيمه . وأعلمهم أنه يخشى عليهم إذا هم لم يوقروا رسول الله ولم يجلوه أن تحبط أعمالهم كما تحبط بالشرك والكفر وهم لا يشعرون . إِذْ رَفْعُ الصوت للرسول ونداؤه بأعلى الصوت يا محمد أو يا نبيّ الله ويا رسول الله وبأعلى الأصوات إذا صاحبه استخفاف أو إهانة وعدم مبالاة صار كفراً محبطاً للعمل قطعا .
- بما أن الله تعالى قد قبض إليه نبيّه ولم يبق بيننا رسول الله نتكلم معه أو نناجيه فنخفض أصواتنا عند ذلك فإِن علينا إذا ذكر رسول الله بيننا أو ذكر حديثه أن نتأدب عند ذلك فا نضحك ولا نرفع الصوت ، ولا نظهر أي استخفاف أو عدم مبالاة وإلا يخشى علينا أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، { أن تحبط أعمالكم } لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ، { وأنتم لا تشعرون } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : " لما نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأل محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : أبا عمرو : ما شأن ثابت أيشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة " . وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني محمد صلى الله عليه وسلم ، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن به في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناراً حتى يقضيه عني وفلان وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته . قال مالك بن أنس : لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضون أصواتهم عند النبي إجلالا له " . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه . { لهم مغفرة وأجر عظيم* }
عياض:... ناظر أبو جعفر -أمير المؤمنين- مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} ومدح قوما فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله}، وذم قوما فقال؛ {إن الذين ينادونك} وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر.
وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله، قال الله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم}.
وقال مالك: وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرمقه فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
عياض: قال القروي: لما كثر الناس على مالك قيل له: لو جعلت مستمليا يسمع الناس؟ قال: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وحرمته حيا وميتا سواء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام، وتغلظون له في الخطاب" وَلا تجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ "يقول: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبيّ الله، يا نبي الله، يا رسول الله... عن مجاهد، في قوله: "وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ"، قال لا تنادُوه نداء، ولكن قولاً لينا؛ يا رسول الله...
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: حدثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس، قال: ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس، عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية "لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ" قال: قعد ثابت في الطريق يبكي، قال: فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان، فقال: ما يُبكيك يا ثابت؟ قال: لهذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، قال: فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وغلبه البكاء، قال: فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فقال لها: إذا دخلتُ بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: «اذْهَبْ فادْعُهُ لي» فجاء عاصم إلى المكان، فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضّبة، قال: فخرجا فأتيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيكَ يا ثابِتُ»؟ فقال: أنا صيّت، وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ "لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَولِ" فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَميدا، وتَقْتَلَ شَهيدا، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ»؟ فقال: رضيت ببُشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله "إنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتّقْوَى"... الآية...
حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا نافع بن عمر بن جُميْل الجمحي، قال: ثني أبن أبي مليكة، عن الزبير، قال: «قدم وفد أراه قال تميم، على النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم الأقرع بن حابس، فكلم أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه، قال: فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، قال: فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك. قال: ونزل القرآن: "يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ" إلى قوله: "وأَجْرٌ عَظِيمٌ" قال: فما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فَيُسْمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذكر ابن الزبير جدّه، يعني أبا بكر.
وقوله: "أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ" يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض نحوّيي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم... وقال بعض نحويي البصرة: قال: "أن تحبط أعمالكم": أي مخافة أن تحبط أعمالكم...
وقوله: "وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" يقول: وأنتم لا تعلمون ولا تدورن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وعندنا لا يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهر بالقول له وما ذُكر من التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّبعوا أمره ونهيه، إذ لا يُحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ويجهروا بالقول، ويقدّموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو وغفلة أو إذن منه بالمُناظرة والمحاورة في العلم، فعند ذلك ترتفع أصواتهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجلّ في قلوبهم وأعظم قدرا من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر أو رفع صوت أو جهر القول له. فتكون الآية في أهل الشرك وفي أهل النفاق، والله أعلم.
ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين:
أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك، وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه ورفع الصوت والجهر له بالقول، ولله أن يمتحن، ويأمُر، وينهى من شاء بما شاء ابتداء امتحان منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل عليهم السلام عن الشرك والمعاصي، وإن كانوا معصومين عن ذلك، لأن العِصمة لا تمنع النهي، لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي. فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم ورفع الصوت والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، والله أعلم.
والثاني: أنه خاطب هؤلاء الصحابة عليهم السلام ليتّعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين، إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة لئلا يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معاملة بعضهم بعضا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ذكر هذا ليكونوا أبدا متيقّظين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرين معظّمين له في كل وقت لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يخرج مجرى الاستخفاف به والتعاون على السّهو والغفلة، فيُحبط ذلك أعمالهم. إن هذا الصنيع برسول الله صلى الله عليه وسلم يُكفّر صاحبه، ولا يكون معذورا، وإن فعله على السّهو والغفلة، لأن لهم قدرة الاحتراز وإمكان التحذّر، وإن كانوا معذورين في ما بينهم على غير التّعمّد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع الله تعالى المؤاخذة عنهم في ما بينهم، ولم يرفع في حق النبي، عليه أفضل الصلوات، مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبي} أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله: ولا تجهروا له بالقول: إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك...
وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْت ذَلِكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ...
المسألة الثَّانِيَةُ: حُرْمَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ من لَفْظِهِ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وَكَلَامُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الْوَحْيِ وَلَهُ من الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا ترفعوا أصواتكم} أي في شيء من الأشياء {فوق صوت النبي} أي الذي يتلقى عن الله، وتلقيه عنه متوقع في كل وقت، وهذا يدل على أن أذى العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عنه شديد جداً، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك. ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال: {ولا تجهروا له بالقول} أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء. ولما شمل هذا كل جهر مخصوص، وهو ما يكون مسقطاً للمزية، قال: {كجهر بعضكم لبعض} أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره...
{أن} أي النهي لأجل خشية- أن {تحبط} أي تفسد فتسقط {أعمالكم} أي التي هي- الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي بأنها حبطت، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور؛
الأوّل: عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام.
والثاني: عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته سواء كان في خطابه، أو في خطاب غيره.
والثالث: ترك الجفاء في مخاطبته، ولزوم الأدب في مجاورته، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر... وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيئ إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وأنتم لا تشعرون} لأن المنتقل من سيّئ إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضْرَى النفس بالإقدام على ذلك...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحذر كتاب الله من عاقبة سوء الأدب مع الرسول ورفع الصوت عليه، فقد ينتهي ذلك بما لا تحمد عقباه، ويؤدي إلى إحباط عمل المؤمن وخسرانه، وذلك قوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}، أي إنما نهيناكم عن ذلك خشية أن يحبط عملكم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا لونٌ من ألوان الأدب الإسلامي في مخاطبة المسلمين للنبي، تقضي بمراعاة الإخفات في الكلام، أو الهدوء في الخطاب، بحيث تكون أصوات المسلمين أخفض من صوته، لتتميَّز طريقتهم في الحديث معه عن طريقتهم في الحديث العادي مع بعضهم البعض...
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي حذراً من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ، مما قد يؤدّي إلى الاستهانة به وبأمره ونهيه...
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأمروا بغض الصوت عند مخاطبته { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } لاتنزلوه منزلة بعضكم من بعض فتقولوا يا محمد ولكن خاطبوه بالنبوة والسكينة والإعظام { أن تحبط أعمالكم } كي لا تبطل حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أن خطابه بالجهر ورفع الصوت فوق صوته يحبط العمل فلما نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما فما كلما النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار فأنزل الله تعالى { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها وأخلصها للتقوى
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال : حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال عمر : ما أردت خلافك ، قال : فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه . قال : وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر . قال : هذا حديث غريب حسن . وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا ، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير .
قلت : هو البخاري ، قال : عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، فقال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية . فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر ذلك عن أبيه{[14049]} ، يعني أبا بكر الصديق . وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه : نزل قوله : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة ، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر ، لأن خالتها عنده . وقد تقدم هذا الحديث في " آل عمران " {[14050]} .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر كان{[14051]} يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا . فقال موسى{[14052]} : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : ( اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة ) ( لفظ البخاري ) وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد . وقيل : أبا عبد الرحمن . قتل له يوم الحرة{[14053]} ثلاثة من الولد : محمد ، ويحيى ، وعبد الله . وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك ، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر ، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم ، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد :
أتيناك كَيْمَا يعرفُ الناس فضلَنا *** إذا خلفونا عند ذكرِ المكارم
وإنا رؤوس الناس من كل معشر***وأن ليس في أرض الحجاز كَدَارِمِ
وإن لنا المِرْبَاعُ في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التَّهَائمِ{[14054]}
بني دارمٍ لا تفخرُوا إن فخركم *** يعود وَبَالاً عند ذكر المكارم
هَبِلْتُم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خَوَلٌ من بين ظِئْرٍ وخَادمِ{[14055]}
فقالوا : خطيبهم أخطب من خطيبنا ، وشاعرهم أشعر من شاعرنا ، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " . وقال عطاء الخراساني : حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي . فقال عليه السلام : ( لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ) . قال : ثم أنزل الله : " إن الله لا يحب كل مختال فخور " {[14056]} [ لقمان : 18 ] فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي . فقال : [ لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ] . قالت : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستن{[14057]} في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالدا فأخبره ، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته . قال : ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، رحمه الله ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب .
الثانية- قوله تعالى : " ولا تجهروا له بالقول " أي لا تخاطبوه : يا محمد ، ويا أحمد . ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك . وقيل : " لا تجهروا له " أي لا تجهروا عليه ، كما يقال : سقط لفيه ، أي على فيه - " كجهر بعضكم لبعض " الكاف كاف التشبيه في محل النصب ، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . " لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " أي من أجل أن تحبط ، أي تبطل ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : أي لئلا تحبط أعمالكم .
الثالثة- معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق . لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبهروا منطقه بصخبكم . وفي قراءة ابن مسعود " لا ترفعوا بأصواتكم " . وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام . وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم ، إذ هم ورثة الأنبياء .
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به . وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " {[14058]} [ الأعراف : 204 ] . وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه .
الخامسة- ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون . وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه{[14059]} غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير . ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : ( اصرخ بالناس ) ، وكان العباس أجهر الناس صوتا . يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس : يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زَجْرُ أبي عُرْوةَ{[14060]} السباعِ إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه .
السادسة- قال الزجاج : " أن تحبط أعمالكم " التقدير لأن تحبط ، أي فتحبط أعمالكم ، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله : " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع . كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم .
ولما ثبت إعظام{[60676]} الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يفتات عليه {[60677]}بأن يتأهب{[60678]} ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات ، فلا يكلم إلا جواباً أو سؤالاً في أمر ضروري لا يمكن تأخيره ، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعاً الأولى به غيره مما هو دونه ، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة ، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام ، قال ذاكراً لثاني الأقسام ، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بالقصد الأول ، مستنتجاً مما مضى من وصفه بالرسالة{[60679]} الدالة على النبوة ، آمراً بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته بتبجيله{[60680]} وتفخيمه ، وإعزازه وتعظيمه ، مكرراً لندائهم بما ألزموا أنفسهم به من طاعته بتصديقه و{[60681]}استدعاء لتجديد{[60682]} الاستنصار وتطرية الندب إلى الإنصات وإشارة إلى أن المنادى له أمر يستحق أن يفرد بالنداء ويستقل{[60683]} بالتوصية{[60684]} : { يا أيها الذين آمنوا } مكرراً للتعبير بالأدنى من أسنان{[60685]} القلوب للتنبيه على أن فاعل مثل هذه المنهيات والمحتاج فيها إلى التنبيه بالنهي قد فعل من هذا حاله { لا ترفعوا أصواتكم } أي في شيء من الأشياء { فوق صوت النبي } أي الذي يتلقى عن الله ، وتلقيه{[60686]} عنه متوقع في كل وقت ، وهذا يدل على أن أذى{[60687]} العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عنه شديد{[60688]} جداً ، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك .
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة ، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال : { ولا تجهروا له بالقول } أي إذا كلمتموه سواء كان {[60689]}ذلك بمثل{[60690]} صوته أو أخفض من صوته ، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ، ويوقر{[60691]} الكبراء . ولما شمل هذا كل جهر مخصوص ، وهو ما يكون مسقطاً للمزية ، قال : { كجهر بعضكم لبعض } أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق{[60692]} بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره . ولما نهى عن ذلك ، بين ضرره{[60693]} فقال مبيناً أن من الأعمال ما يحبط ولا يدرى أنه محبط ، ليكون العامل كالماشي في طريق خطر لا يزال-{[60694]} يتوقى خطره ويديم حذره : { أن } أي النهي لأجل خشية-{[60695]} أن { تحبط } أي تفسد فتسقط { أعمالكم } أي التي هي-{[60696]} الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها { وأنتم لا تشعرون } أي بأنها حبطت ، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه ، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر .