وقوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ] }{[11601]} قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي .
وقال [ علي ]{[11602]} بن طلحة - في رواية - والعَوْفي ، كلاهما عن ابن عباس : أما { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فمن قبل دنياهم ، وأما { مِنْ خَلْفِهِمْ } فأمر آخرتهم ، وأما { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } فمن قِبَل حسناتهم ، وأما { عَنْ شَمَائِلِهِمْ } فمن قبل سيئاتهم .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : أتاهم { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فأخبرهم أنه{[11603]} لا بعث ولا جنة ولا نار { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و { عَنْ أَيْمَانِهِم } من قبل حسناتهم بَطَّاهم{[11604]} عنها { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } زين لهم السيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها ، وأمرهم بها . آتاك يا ابن آدم من كل وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي ، والحكم بن عتيبة{[11605]} والسدي ، وابن جرير{[11606]} إلا أنهم قالوا : { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة .
وقال مجاهد : " من بين أيديهم وعن أيمانهم " : حيث يبصرون ، " ومن خلفهم وعن شمائلهم " : حيث لا يبصرون .
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه ، والشر يُحببه{[11607]} لهم .
وقال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ولم يقل : من فوقهم ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال : موحدين .
وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ : 20 ، 21 ] .
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا نَصْر بن علي ، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، عن يونس بن خَبَّاب ، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عَوْرَتي ، وآمن رَوْعَتِي{[11608]} واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك{[11609]} اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي " . تفرد به البزار{[11610]} وحسنه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري ، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : " اللهم إني أسألك العافية{[11611]} في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن رَوْعاتي ، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فَوْقِي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " . قال وكيع : يعني الخسف .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حِبَّان ، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم ، به{[11612]} وقال الحاكم : صحيح الإسناد .
جملة : { ثم لأتيناهم } ( ثمّ ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل .
وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة .
وعُلِّق { بين أيديهم } و { خلفهم } بحرف ( مِن ) وعلّق { أيمانهم } و { شمالهم } بحرف عن جرياً على ما هو شائع في « لسان العرب » في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل ( عن ) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافياً له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( عن ) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك ( مِن ) في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتداء يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( من ) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند ، لأنّ وجود ( مِن ) كالعدم ، وقد قال الحريري في « المقامة النّحويّة » ( مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف : « فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة » .
والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس ، تعارفه النّاس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك . وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ] . وقال امرؤ القيس :
عَلَى قَطَنٍ بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوبه
لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِلٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة ( يَمِين ) ، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي .
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس ، وهو جمع على غير قياس .
وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس ، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات .
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] ووجهُ هذه الكناية ، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس ، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمراً شنيعاً إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.