تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي : كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا .

وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [ الحج : 39 ] وهو الأشهر ، وبه ورد الحديث .

وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع " . رواه الإمام أحمد{[3385]} .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع " . رواه الإمام أحمد{[3386]} .

ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه{[3387]} . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان{[3388]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا : واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : " إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[3389]} .

هذا حديث حَسَنُ الإسناد . ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب{[3390]} هذا الاعتداء . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا .

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون{[3391]} عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول : الشرك أشد من القتل .

وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين : " إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " {[3392]} .

يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .

[ وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر ]{[3393]} .

وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال{[3394]} كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .


[3385]:صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
[3386]:المسند (1/300).
[3387]:سنن أبي داود برقم (2614).
[3388]:صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
[3389]:المسند (5/407).
[3390]:في جـ: "لسبب".
[3391]:في جـ: "مقيمون".
[3392]:صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3393]:زيادة من جـ، أ.
[3394]:في أ: "للقتال".

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

{ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } ( 191 )

قال ابن إسحاق وغيره : نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد ، وهي سرية عبد الله بن جحش( {[1778]} ) ، و { ثقفتموهم } معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم ، يقال رجل ثقف لقف( {[1779]} ) إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور ، { وأخرجوهم } . قال الطبري : «الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : بل الخطاب لجميع المؤمنين ، ويقال { أخرجوكم } إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدراً وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون ، { والفتنة أشد من القتل } أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل .

قال مجاهد : «أي من أن يقتل المؤمن ، فالقتل أخف عليه من الفتنة » . قال غيره : بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم ، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي( {[1780]} ) .

وقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الآية ، قال الجمهور : كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع

. قال الربيع : نسخه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .

وقال قتادة : نسخة قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( {[1781]} ) [ التوبة : 5 ] .

وقال مجاهد : «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل »( {[1782]} ) .

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم » بالقتل في الأربعة( {[1783]} ) ، ولا خلاف في الأخيرة أنها { فاقتلوهم } ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون ، وذلك كقوله تعالى : { قتل معه ربيون كثير فما وهنوا }( {[1784]} ) [ آل عمران : 146 ] أي فما وهن الباقون .


[1778]:- عمرو بن الحضرمي هو: عمرو بن عبد الله الحضرمي ابن عباد، وقد كان له إخوة مشهورون، وواقد بن عبد الله التميمي بن مناة بن عويم بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة. وعبد الله بن جحش الأسدي من كبار الصحابة، وهو أخو زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم (أمير المؤمنين) فهو أول من حمل هذا اللقب في الإٍسلام، وقد خرج على رأٍس سرية في رجب بعد سبعة عشر شهرا من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والقصة أن (واقدا) رمى (عمرو بن الحضرمي) فقتله – ولهذا كانت بنو اليربوع تفتخر بأن منها أول من قتل قتيلا من المشركين في الإٍسلام – وقد مات (واقد) هذا في أول خلافة عمر رضي الله عنه.
[1779]:- ثقْف لقْف – بسكون القاف وبكسرها في الكلمتين.
[1780]:- بمعنى أن الضلال والكفر الذي هم فيه أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام كما فعل واقد بن عبد الله الصحابي مع عمرو بن الحضرمي (لأنه قتله في رجب وهو شهر حرام)، وإن كان القتل في الأشهر الحرم غير جائز أصلا.
[1781]:- قوله تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة] من الآية (39) من سورة (الأنفال)، وقوله تعالى: (فإذا انسلخ...) الخ من الآية (5) من سورة (التوبة)..
[1782]:- هذا هو الحق، وهو الذي رجحه الفخر الرازي، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ولم تحل لأحد من بعدي]، يقوي قول مجاهد، وذلك أن حرمة المسجد الحرام لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، فالآية الكريمة بمثابة الاستثناء من قوله تعالى: [واقتلوهم حيث ثقفتموهم].
[1783]:- متعلق بقوله: وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش أي: قرؤوا بالقتل أي بحذف الألف، وهذه القراءة نص في أن الكافر إذا التجأ إلى الحرم لا يقتل، ويأتي ذلك على القراءة الأخرى لأنها تنهى عن القتال المؤدي إلى القتل.
[1784]:- من الآية (146) من سورة (آل عمران).