التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

قوله : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } الضمير المنصوب فيه يعود على قوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } في الآية السابقة .

و { ثَقِفْتُمُوهُم } : أدركتموهم وظفرتم بهم . يقال : ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ومنه : رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه . قال الشاعر :

فإما تثقفوني فاقتلوني . . . فمن أثقف فليس إلى خلود

ويقال - أيضاً - رجل ثقف : إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور .

والمعنى : عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم ، فأنهم قد بادءوكم بالعدوان ، وتمنوا لكم كل شر وسوء .

وقوله : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } معطوف على ما قبله .

وحيث ظرف مكان . والمكان الذي أخرجوهم منه هو مكة ، فإن المشركين من قريش قد أنزلوا بالمسلمين الأولين من صنوف الأذى ما جعلهم يتركون مكة ويهاجرون إلى بلاد الحبشة .

أولا : ثم إلى المدينة المنورة ثانياً . أي : اقتلوا هؤلاء الذين قاتلوكم في أي مكان لقيتموهم فيه ، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة .

وفي هذا تهديد للمشركين ، وإغراء للمسلمين بهم ، ووعد بفتح مكة وقد أنجز الله - تعالى - وعده ففتح المسلمون مكة في السنة الثامنة من الهجرة .

وقولع - تعالى - : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } . دفع لما قد يقع من بعض المسلمين من استعظام قتل المشركين في مكة .

والفتنة في الأصل : مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزائف منهما ، ثم استعملت في الابتلاء والامتحان والصرف عن الشيء ، وأكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين ، ثم على الكفر .

ويبدو أن المراد منها هنا ما كان يفعله المشركون مع المسلمين من التعذيب والصد عن الدين ، والإِخراج من الوطن ، وغير ذلك من صنوف الأذى .

والمعنى : لا تقصروا في قتل المشركين الذين يقاتلونكم ، والذين أخرجوكم من دياركم ، فإن فتنتهم لكم بالإِيذاء والتعذيب والصد عن الدين ، أشد ضررا من قتلكم لهم في أي مكان وجدوا به .

وبعضهم فسر الفتنة هنا بالشرك ، أو بالرجوع إلى الكفر ، أو بعذاب الآخرة ، وقد بين ذلك صاحب الكشاف بقوله . وقوله : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإِنسان يتعذب به أشد عليه من القتل وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت : قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل الإِخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت ، ومنه قول القاتل :

القتل بحد السيف أهون موقعا . . . على النفس من قتل بحد فراق

وقيل : { والفتنة } عذاب الآخرة قال - تعالى - { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين . فقيل : والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم " .

وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد أذنت للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال دفعاً لشرهم أينما وجدوا .

ثم ساقت الآية جملة أخرى نهت فيها المؤمنين عن قتال المشركين عند المسجد الحرام مراعاة لحرمته . ما دام المشركون لم يفاتحوهم بالقتال عنده ، أما إذا فاتحوهم بالقتال فيه ، فقد أصبح من حق المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأن يقاتلوا أعداءهم . وهذه الجملة هي قوله - تعالى - : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } .

أي : لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراماً له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده ، فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده ، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون ، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته ، وحرمة سائر الحرم من أجله ، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا ما هاجمهم المشركون عنده أو فيه .

قال ابن كثير ما ملخصه : وقد دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدأوا بالقتال فيه دفعا لصولتهم ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أً صحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } وقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد ومن معه يوم الفتح : " إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا " . فما عرض لهم أحد إلا أناموه وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلاً " .

ولم يقل - سبحانه - فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، وإنما قال { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } تبشيراً للمؤمنين بالغلبة عليهم ، وإشعاراً بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم ، فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل .

وقوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } تذييل لما قبله . واسم الإِشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا .

والجزاء : ما يقع في مقابلة الإِحسان أو الإِساءة ، فيطلق على ما يثاب به المحسن ، وعلى ما يعاقب به المسيء . والمراد به في الآية العقاب .

أي : مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم .