الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{واقتلوهم حيث ثقفتموهم}: أين أدركتموهم في الحل والحرم.

{وأخرجوهم}: من مكة {من حيث أخرجوكم}: من مكة.

{والفتنة أشد من القتل}: الشرك أعظم عند الله عز وجل جرما من القتل.

{واقتلوهم حيث ثقفتموهم}، أنزل الله عز وجل بعد: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام}: يعني أرض الحرم كله، فنسخت هذه الآية، ثم رخص لهم،

{حتى يقاتلوكم فيه}: حتى يبدؤوا بقتالكم في الحرم. {فإن قاتلوكم} فيه، {فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين}: إن بدأوا بالقتال في الحرم أن يقاتلوا فيه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم}، ومعنى الثقفة بالأمر: الحذق به والبصر، يقال: إنه لثَقْفٌ لقَفْ إذا كان جيد الحذر في القتال بصيرا بمواقع القتل.

وأما التثقيف: فمعنى غير هذا، وهو التقويم. فمعنى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم اقتلوهم}: في أيّ مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم.

{وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ}: فإنه يعني بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم وقد أخرجوكم من دياركم من مساكنكم وديارهم كما أخرجوكم منها.

{وَالفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْل}: والشرك بالله أشدّ من القتل.

وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار؛ فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا عليه محقّا فيه... عن مجاهد في قول الله:"وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل" قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من القتل.

{وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدَ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيه فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ}؛

والقرّاء مختلفة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة: "وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِد الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ"؛ بمعنى: ولا تبتدئوا أيها المؤمنون المشركين بالقتال عند المسجد الحرام حتى يبدؤوكم به، فإن بدءوكم به هنالك عند المسجد الحرام في الحرم فاقتلوهم، فإن الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة القتل في الدنيا والخزي الطويل في الاَخرة... عن قتادة: كانوا لا يقاتلون فيه حتى يُبدؤوا بالقتال. ثم نسخ بعد ذلك فقال: "وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تكونَ فِتْنَةٌ "حتى لا يكون شرك "وَيَكُونَ الدّينُ لِلّهِ"؛ أن يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبيّ الله وإليها دعا.

[وعنه]: "وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ"؛ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتّمُوهُمْ"؛ فأمر الله نبيه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحلّ والحرم وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

وقال بعضهم: هذه آية محكمة غير منسوخة: عن مجاهد: فإنْ قاتَلَوكُم في الحرم، فاقْتُلُوهُمْ "كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ"؛ لا تقاتل أحدا فيه أبدا، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك.

وقرأ ذلك عظم قراء الكوفيين: «وَلا تَقْتلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ» بمعنى: ولا تبدؤوهم بقتل حتى يبدؤوكم به.

وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: "وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ"، لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم حتى يقتلوا منهم قتيلاً بعد ما أذن له ولهم بقتالهم، فتكون القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يقتلوا منهم أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه قد كان تعالى ذكره أذن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قبل أن يقتلوا منهم قتيلاً، وبعد أن يقتلوا منهم قتيلاً.

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: "وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ"، وقوله: "فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، ونحو ذلك من الاَيات.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فيه إذْن بقتلهم في جميع الأمكنة، وفي تعميم الأمكنة تعميم الأوقات، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقا...

[و] ظاهر هذه الآية يحرم القتال في أشهر الحج، لكن فيه دليل حل القتال بقوله: (والفتنة أكبر من القتل) [البقرة: 217] يعني بالفتنة الشرك؛ جعل القتل فيه كبيرا، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

مسألة: في حكم قتال الكفار عند المسجد الحرام: ولا يحل قتال أحد مشرك ولا غيره في حرم مكة، لكننا نخرجهم منه، فإن خرجوا وصاروا في الحل نفذنا عليهم ما يجب عليهم من قتل، أو أسر، أو عقوبة، فإن امتنعوا وقاتلونا قاتلناهم حينئذ في الحرم كما أمر الله تعالى وقاتلناهم فيه، وهكذا نفعل بكل باغ وظالم من المسلمين ولا فرق. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية؟ قلنا: الذي قال هذا قال: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} وكلامه كله حق، وعهوده كلها فرض، ولا يحل ترك شيء من كلامه لشيء آخر إلا بنسخ متيقن فواجب علينا أن نستعمل مثل هذه النصوص ونجمعها، ونستثني الأقل منها من الأكثر، إذ لا يحل غير ذلك. فنحن نقتل المشركين حيث وجدناهم إلا عند المسجد الحرام. فنحن إذا فعلنا هذا كنا على يقين من أننا قد أطعنا الله تعالى في كل ما أمرنا به، ومن خالف هذا العمل فقد عصى الله تعالى في إحدى الآيتين؟ وهذا لا يحل أصلا. وكما قلنا فعل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فإنه لما ابتدأه الفساق بالقتال في حرم مكة: يزيد وعمرو بن سعيد، والحصين بن نمير، والحجاج، ومن بعثه ومن كان معهم من جنود السلطان قاتلهم مدافعا لنفسه وأحسن في ذلك وبالله تعالى التوفيق...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وقيل: (الفتنة) عذاب الآخرة {َذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13] وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين، فقيل: والشرك الذي هم عليه أشدّ وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{اقتلوهم} الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن...

والضمير في قوله: {اقتلوهم} عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء [أقاتلوا] [أم] لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام...

عن ابن عباس: أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل...

روي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فالمؤمنون عابوه على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر من الشهر الحرام أعظم من ذلك

وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الأصل، والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هربا من إضلالهم في الدين، وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها، وقال بعض الحكماء: ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم قال {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدنكم عنهم أنكم في الأرض الحرام إلا ما يستثنى في الآية بشرطه {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنون في دينهم، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة، فرضي النبي والمؤمنين على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم، فلم يكن من المشركين إلا أن نقضوا العهد. أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين؟ وهل يصح أن يقال فيهم إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون الإرشاد والدعوة؟ كلا لا يقول هذا إلا غر جاهل، أو عدو متجاهل.

ثم زاد التعليل بيانا فقال {والفتنة أشد من القتل} أي أن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشد قبحا من القتل، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره. والفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما. ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضا فتانة (كجبانة) ثم استعملت للفتنة في كل اختيار شاق، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين، ومنه قوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون؟} (العنكبوت: 2) وغير ذلك من الآيات.

وما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} (الحج: 39) {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} (الحج: 40) الآيات. وهي أول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللا بسببه مقيدا بشروطه العادلة.

وفسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك وجرى عليه الجلال، ورده الأستاذ الإمام بأنه يخرج الآيات عن سياقها، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف [قيل] ورد قولهم أيضا: إن هذه الآية ناسخة لما قبلها. وذلك أنه كبر على هؤلاء أن يكون الإذن بالقتال مشروطا باعتداء المشركين، ولأجل أمن المؤمنين في الدين وأرادوا أن يجعلوه مطلوبا لذاته، وقال إن هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخا للآخر، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام فذلك شيء آخر.

ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه: المسجدَ الحرامَ فقال: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} أي أن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان له حينئذ. ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه أكد الإذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم {كذلك جزاء الكافرين} أي أن من سنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذبهم في مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم، وأخرجوهم من ديارهم، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة، وفي أي مكان وجدوهم. باستثناء المسجد الحرام. إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال. وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم:

(واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم -والفتنة أشد من القتل. ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه. فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)..

إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية. ومن ثم فهي أشد من القتل. أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة. ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله، وتزين لهم الكفر به أو الاعراض عنه. وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه؛ بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله. ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها.

وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية.. هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني. فغاية الوجود الإنساني هي العبادة [ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله]. وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد. فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته. ومن ثم يدفعه بالقتل.. لذلك لم يقل: وقاتلوهم. إنما قال: (واقتلوهم).. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم.

في أية حالة كانوا عليها؛ وبأية وسيلة تملكونها- مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار.

ولا قتال عند المسجد الحرام، الذي كتب الله له الأمن، وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم [عليه السلام] وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام.. لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته، فيبدأون بقتال المسلمين عنده. وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم.. فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام، الذي عاشوا في جواره آمنين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والفتنة: إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْشِ...

وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضاً الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل.

وقوله: {كذلك جزاء الكافرين}، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: {فاقتلوهم} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: البقرة: 143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله {كذلك} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوماً بيوم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم). ثمّ يضيف الله تعالى (والفتنة أشدُّ من القتل).

أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين و أرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فَتْن) على وزن مَتْن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وأصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.

فتارة جاءت بمعنى الامتحان مثل (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون) (العنكبوت: 2).

وتارةً وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى (يا بني آدم لا يفتننكم الشّيطان) (الأعراف: 27).

وتارةً بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله (يوم هم على النّار يُفتنون ذوقوا فتنتكم) (الذاريات: 13، 14).

وتارةً وردت بمعنى الضّلال مثل قوله (ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً) (المائدة: 41).

وتارةً بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى: (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).

ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الامتحان الّذي يقترن عادةً بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق إيمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.

والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث تخاطب المسلمين: أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

وقد أورد بعض المفسّرين احتمالاً آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الاجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الأمور أحياناً أشد من القتل أو سبباً في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية (73) من سورة الأنفال قوله تعالى (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.

ثمّ تشير الآية إلى مسألة أخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام، إلاّ أن يبدؤوكم بالقتال (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه).

(فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه.