وقوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } أي : من سعى في أمر ، فترتب عليه خير ، كان له نصيب من ذلك { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } أي : يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء " .
وقال مجاهد بن جَبْر : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض .
وقال الحسن البصري : قال الله تعالى : { مَنْ يَشْفَعْ } ولم يقل : من يُشَفَّع .
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال ابن عباس ، وعطاء ، وعطية ، وقتادة ، ومطر الوراق : { مُقِيتًا } أي : حفيظا . وقال مجاهد : شهيدا . وفي رواية عنه : حسيبا . وقال سعيد بن جبير ، والسدي ، وابن زيد : قديرا . وقال عبد الله بن كثير : المقيت : الواصب{[7953]} وقال الضحاك : المقيت : الرزاق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن عبد الله بن رواحة ، وسأله رجل عن قول الله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال : يُقيت كلّ إنسان على قدر عمله{[7954]} .
{ من يشفع شفاعة حسنة } راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة والسلام : " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك " . { يكن له نصيب منها } وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها . { ومن يشفع شفاعة سيئة } يريد بها محرما . { يكن له كفل منها } نصيب من وزرها مساو لها في القدر . { وكان الله على كل شيء مقيتا } مقتدرا من أقات على الشيء إذا قدر قال :
وقوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة } الآية . اصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع ، وهو الزوج في العدد ، لأن الشافع ثان لوتر المذنب ، والشفيع ثان لوتر المشتري{[4172]} .
واختلف في هذه الآية المتأولون ، فقال الطبري : المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ، أو من يشفع وتر الكفر وغيرهم : هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ، فمن يشفع لينفع فله نصيب ، ومن يشفع ليضر فله كفل ، وقال الحسن وغيره : «الشفاعة الحسنة » هي في البر والطاعة ، والسيئة هي في المعاصي ، وهذا كله قريب بعضه من بعض ، «والكفل » النصيب ، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر ، وفي كتاب الله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته }{[4173]} و { مقيتاً } معناه قديراً ، ومنه قول الشاعر ، وهو الزبير بن عبد المطلب : [ الوافر ]
وَذِي ضَغنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ *** وَكُنْتُ عَلَى إذَابَتِهِ مُقيتا{[4174]}
أي قديراً ، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد ، بحفيظ وشهيد ، وعبد الله بن كثير ، بأنه الواصب القيم بالأمور ، وهذا كله يتقارب ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت »{[4175]} على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ، وذهب مقاتل بن حيان ، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان ، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات ، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام «من يقيت » من أقات وقد حكى الكسائي «أقات » يقيت ، فأما قول الشاعر [ السموأل بن عادياء ] : [ الخفيف ]
ليث شعري وأشعرَنَّ إذا ما *** قَرَّبُوها مَطْوِيَّةً وَدُعِيتُ
أإلى الفضل أم عليّ ؟ إذا حُو *** سِبْتُ ، إنّي على الحِسَابِ مُقِيتُ{[4176]}
فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى موقوت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول .
استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله : { لا تُكَلَّفُ إلاّ نَفْسَك وحرّض المؤمنين } [ النساء : 84 ] وهو بشارة للرسول عليه الصلاة والسلام بأن جهاد المجاهدين بدعْوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر ، فإنّ تحريضه إيّاهم وساطة بهم في خيرات عظيمة ، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العامّ على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد . ويعلم من عمومها أنّ التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة ، وأنّ سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيّئة ، فجاءت هذه الآية إيذاناً للفريقين بحالتهما . والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسّط في الخير والترهيب من ضدّه .
والشفاعة : الوساطة في إيصال خير أو دفع شرّ ، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا ، وتقدّمت في قوله تعالى : { ولا يُقبل منها شفاعة } في سورة البقرة ( 48 ) ، وفي الحديث " اشفعوا فلْتؤجروا " . ووصفُها بالحسنة وصف كاشف ؛ لأنّ الشفاعة لا تطلق إلاّ على الوساطة في الخير ، وأمّا إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شرّ فهو مشاكلة ، وقرينتها وصفها بسيّئة ، إذ لا يقال ( شفع ) للذي سعى بجلب سوء .
والنصيب : الحظّ من كلّ شيء : خيراً كان أو شراً ، وتقدّم في قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة البقرة ( 202 ) .
والكِفل بكسر الكاف وسكون الفاء الحَظْ كذلك ، ولم يتبيّن لي وجه اشتقاقه بوضوح . ويستعْمل الكفل بمعنى المِثل ، فيؤخذ من التفسيرين أنّ الكفل هو الحظّ المماثل لِحظّ آخر ، وقال صاحب « اللسان » : لا يقال هذا كفل فلان حتّى يكون قدْ هيّىء لغيره مثله ، ولم يعزُ هذا ، ونسبه الفخر إلى ابن المظفّر ، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت ، ولعلّه لا يساعد عليه الاستعمال . وقد قال الله تعالى : { يُؤتكم كفلين من رحمته } [ الحديد : 28 ] . وهل يحتجّ بما قاله ابن المظفّر وابن المظفّر هو محمد بن الحسن بن المظفّر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي . وفي مفردات الراغب أنّ الكفل هو الحظّ من الشرّ والشدّة ، وأنّه مستعار من الكِفل وهو الشيء الرديء ، فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنّه نصيب إيماء إلى أنّه قد يكون له أجرٌ أكثر من ثواب من شفع عنده .
وجملة { وكان الله على كلَ شيء مقيتاً } تذييل لجملة { من يشفع شفاعة حسنة } الآية ، لإفادة أنّ الله يجازي على كلّ عمل بما يناسبه من حُسْن أو سوء .
و { المقيت } الحافظ ، والرقيب ، والشاهد ، والمقتدر . وأصله عند أبي عبيدة الحافظ . وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القُوت ، فوزنه مُفعِل وعينه واو . واستعمل مجازاً في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم ، لأنّ من يقيت أحداً فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك ، وهو هنا مستعمل في معنى الإطلاع ، أو مضمّن معناه ، كما ينبيء عنه تعديته بحرف ( على ) . ومن أسماء الله تعالى المُقيت ، وفسّره الغزالي بمُوصل الأقوات . فيؤول إلى معنى الرازق ، إلاّ أنّه أخصّ ، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه ، وعليه يدلّ قوله تعالى : { وكان الله على كلّ شيء مقيتاً } فيكون راجعاً إلى القدرة والعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من يشفع شفاعة حسنة} لأخيه المسلم بخير، {يكن له نصيب منها}، يعني: حظا من الأجر من أجل شفاعته، {ومن يشفع شفاعة سيئة}، وهو الرجل يذكر أخاه بسوء عند رجل فيصيبه عنت منه، فيأثم المبلغ، فذلك قوله سبحانه: {يكن له كفل منها}، يعني: إثما من شفاعته. {وكان الله على كل شيء مقيتا} من الحيوان، عليه قوت كل دابة لمدة رزقها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها} من يَصِرْ يا محمد شفعا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل الله¹ وهو الشفاعة الحسنة {يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها}: يكن له من شفاعته تلك نصيب، وهو الحظّ من ثواب الله، وجزيل كرامته.
{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً}: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو الشفاعة السيئة {يَكُنْ له كِفْلٌ مِنْها}: بالكفل: النصيب والحظّ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من كِفْل البعير والمركب، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة، يقال منه: جاء فلان مكتفلاً: إذا جاء على مركب قد وطئ له على ما بينا لركوبه.
وقد قيل: إنه عنى بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها...} شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عمّ بذلك كل شافع بخير أو شرّ.
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل ولا لها ذكر بعد.
{وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا}؛
فقال بعضهم: تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظا وشهيدا... حسيبا .
وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير. المقيت: الواصب.
والصواب من هذه الأقوال، قول من قال: معنى المقيت: القدير، وذلك أن ذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع. فتحتمل الشفاعة الحسنة الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهو لذلك مستوجب، فيكون له (من ذلك) نصيب، والشفاعة السيئة هو الدعاء عليه باللعن والمقت، وهو لذلك غير مستوجب، فيكون له منها نصيب. وقيل: (هو كقوله عليه السلام):"الدال على الخير كفاعله" (مسلم1893) و "من دل آخر على الخير فله في ذلك نصيب "( الترمذي 2674) وكذلك من دل آخر على الشر...
وتحتمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه) قال: "كل معروف صدقة" (مسلم1005) و "الدال على الخير كفاعله" (مسلم 1793) و "الله يحب إغاثة اللهفان" (البزار في كشف الخفاء 1951) وعن الحسن رضي الله عنه (أنه) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة أفضل من صدقة اللسان، قيل: وما صدقة اللسان يا رسول الله؟ قال: الشفاعة تجريها إلى أخيك، وقد وقع عليه ثقل الكريهة، وتخفي بها الذم ") (بنحوه السيوطي في الدر المنثور: 2/602)...
والكفل والنصيب واحد. وقيل: الكفل الجزاء. وقيل: إثم، ولكن ليس إثما خاصة. ألا ترى أنه قال عز وجل: {يؤتكم كفلين من رحمته}؟ (الحديد: 28). والشفاعة من أعظم ما احتيج إليها؛ إذ قد جاء القرآن بها والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والشفاعة في المعهود من الأمر يكون عنه زلات تستوجب بها المقت والعقوبة، فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا بهم... وقال بعضهم: الشفاعة تخرج على وجهين:
أحدهما: على ذكر محاسن أحد عند آخر ليقدر عنده المنزلة والرتبة.
والثاني: أن يدعو له. فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه. والثاني: قد بين بقوله تعالى: {الذين يحملون العرش} إلى قوله: {العظيم} (غافر: 7و8و9) وقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28)...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{من يشفع شفاعة حسنة} هي كل شفاعة تجوز في الدين {يكن له نصيب منها} كان له فيها أجر {ومن يشفع شفاعة سيئة} أي ما لا يجوز في الدين أن يشفع فيه {يكن له كفل منها} أي نصيب من الوزر والإثم...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{وكان الله على كل شيء مُقيتا}.
المُقيت معناه: خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة، وإلى القلوب وهي المعرفة، فيكون بمعنى الرازق إلا أنه أخص منه، إذ الرزق يتناول القوت، وغير القوت، والقوت ما يكتفي به في قوام البدن...
وإما أن يكون بمعنى المستولي على الشيء القادر عليه، والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم، وعليه يدل قوله تعالى: {وكان الله على كل شيء مقيتا} أي مطعما قادرا، فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم... ويكون بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده، لأنه دال على اجتماع المعيين... وبذلك يخرج هذا الاسم عن الترادف. [المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى: 102]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغي بها وجه الله ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود الله ولا في حق من الحقوق. والسيئة: ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَنْ يَزِيدُ عَمَلًا إلَى عَمَلٍ.
الثَّانِي: مَنْ يُعِينُ أَخَاهُ بِكَلِمَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ».
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَعْيًا فِي إثْمٍ أَوْ فِي إسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ شَفَاعَةً سَيِّئَةً.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: «مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» مُخْتَصَرًا. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
المسألة الأولى: اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها:
الأول: أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد، والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة، فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة، فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، والغرض منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما.
الثاني: أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب، ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير، فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام: حرضهم على الجهاد، فإن لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك، وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب، فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد، والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع إليه عند طاعتهم أجر عظيم، وما كان يرجع إليه من معصيتهم شيء من الوزر، هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم البتة في المعصية، فلا جرم يرجع إليه من طاعتهم أجر ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر.
الثالث: يجوز أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه، فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو، فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن اذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله، فأما إذا كانت وسيلة إلى معصيته كانت محرمة منكرة. الرابع: يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد، إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد، فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد، فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة، فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة، وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها.
المسألة الثانية: الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها.
إذا عرفت هذا فنقول: في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه:
الأول: أن المراد منها تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد، وذلك لأنه إذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد، وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد، بل على سبيل الرفق والتلطف، وذلك يجري مجرى الشفاعة.
الثاني: أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسول عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد، أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد.
الثالث: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم.
الرابع: قال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء، واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك» فهذا هو النصيب، وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليكم، والسام هو الموت، فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة، أتقولون هذا للرسول! فقال صلى الله عليه وسلم: قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم، فنزلت هذه الآية...
وأقول: هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها، وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين، فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فإن كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل، وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها، وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز؛ لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
المسألة الثالثة: قال أهل اللغة: الكفل: هو الحظ ومنه قوله تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته} أي حظين وهو مأخوذ من قولهم: كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. وإنما قيل: كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر، وإنما استعمل نصيبا من الظهر. قال ابن المظفر: لا يقال: هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله، وكذا القول في النصيب، فإن أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب.
فإن قيل: لم قال في الشفاعة الحسنة: {يكن له نصيب منها} وقال في الشفاعة السيئة: {يكن له كفل منها} وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟
قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل. وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا وكافل اليتيم كهاتين» فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: قوله {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك {فبشرهم بعذاب أليم} والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وكان الله على كل شيء مقيتا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله:... أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع، وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه.
المسألة الثانية: إنما قال: {وكان الله على كل شيء مقيتا} تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الأزل، وليست صفة محدثة، فقوله: {كان} مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا، يدل على أنه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الشفاعة: من الشفع، وهو مقابل الوتر أي الفرد. قال الراغب الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له سائلا عنه. والذي يناسب السياق واتصال الآية بما قبلها من الآيات أن معنى قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة} من يجعل نفسه شفعا لك وقد أمرت بالقتال وترا؛ وهي الشفاعة الحسنة لأنها نصر للحق وتأييد له ومثل ذلك كل من ينضم إلى أي محسن ويشفعه {يكن له نصيب منها} أي من شفاعته هذه بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا عندما ينتصر الحق على الباطل، وبما يكون له من الثواب في الآخرة سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدركه. والنصيب الحظ المنصوب أي المعين كما قال الراغب.
{ومن يشفع شفاعة سيئة} بأن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه، أو يخذل المؤمنين عن قتاله وهذه هي الشفاعة السيئة، ومثلها كل إعانة على السيئات {يكن له كفل منها} أي نصيب من سوء عاقبتها وهو ما يناله من الخذلان في الدنيا والعقاب في الآخرة، فالكفل بمعنى النصيب المكفول للشافع لأنه أثر عمله، أو المحدود لأنه على قدره، أو الذي يجيء من الوراء، وهو على هذا مشتق من كفل البعير وهو عجزه، أو مستعار من المركب الذي يسمى كفلا –بالكسر- قال في لسان العرب: والكفل من مراكب الرجال وهو كساء يؤخذ فيعقد طرفاه ثم يلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره مما يلي العجز (أي الكفل بفتح الكاف والفاء) وقيل هو شيء مستدير يتخذ من خرق أو غير ذلك ويوضع على سنام البعير. وفي حديث أبي رافع قال:"ذلك كفل الشيطان" يعني معقده. ثم قال والكفل ما يحفظ الراكب من خلفه والكفل النصيب مأخوذ من هذا اه كأنه أراد الانتفاع من ناحية الكفل والمؤخر.
والراغب ذهب إلى القول الأول وفاقا لابن جرير. قال إنه مستعار من الكفل (بالكسر) وهو الشيء الرديء، واشتقاقه من الكفل، وهو أن الكفل لما كان مركبا ينبو براكبه صار متعارفا في كل شدة كالسيساء وهو العظم الناتئ من ظهر الحمار فيقال لأحملنك على الكفل وعلى السيساء. ثم قال: ومعنى الآية من ينضم إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكون له منها نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدة. وقيل الكفل الكفيل ونبه على أن من تحرى شرا فله من فعله كفيل يسأله، كما قيل من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه، تنبيها إلى أنه لا يمكنه التخلص من عقوبته اه.
وفسر الآية بنحو ما ذكرنا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ولكنه جعل الشفاعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن جعلناها له صلى الله عليه وسلم لأنها أمر أولا بالقتال وحده فكان كل من يتصدى للقتال معه قد تصدى لأن يجعل نفسه معه شفيعا. واسم الشرط في "من يشفع "يؤذن بالعموم ولكن يدخل فيه ما ذكرنا دخولا أوليا بقرينة السياق.
قال ابن جرير: وقد قيل إنه عنى بقوله: {من يشفع شفاعة حسنة} الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر. وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه فيما يحض المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه بالحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض اه. ثم ذكر أقوال من ذكروا أنها في شفاعة الناس بعضهم لبعض...
وقد أنكر الأستاذ الإمام علي الجلال وغيره حمل الشفاعة على ما يكون بين الناس في شؤونهم الخاصة من المعايش وقال: إن هذا التخصيص يذهب بما في الآية من القوة والحرارة ويخرجها من السياق، والصواب أنها أعم، فالمقصود أولا وبالذات الشفاعة المتعلقة بالحرب وقد علمنا أن الآيات في المبطئين عن القتال والذين يبيتون ما لا يرضي الله تعالى من خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ضروب الاعتذار التي كانوا يعتذرون بها، وقد يكون هذا الاعتذار بواسطة بعض الناس الذين يرجى السماع لهم والقبول منهم، وهو عين الشفاعة اه.
ثم أقول إن العلماء متفقون على أن شفاعة الناس بعضهم لبعض تدخل في عموم الآية وأنها قسمان حسنة وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم، أو جر منفعة إلى مستحق، ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار، والسيئة أن يشفع في إسقاط حد، أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة في عمل، بما يجر إلى الخلل والزلل، والضابط العام أن الشفاعة الحسنة هي ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة فيما كرهه أو حرمه.
ومن العبرة في الآية أن نتذكر بها الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإعلامه ما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لأجل إرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل وينافي المصلحة العامة، وأما الحاكم المستبد الظالم فهو الذي تروج عنده الشفاعات لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداد فيثق بثباتهم على خدمته، وإخلاصهم له، وما الذئاب الضارية بأفتك في الغنم، من فتك الشفاعات في إفساد الحكومات والدول، فإن الحكومة التي تروج فيها الشفاعات يعتمد التابعون لها على الشفاعة في كل ما يطلبون منها لا على الحق والعدل، فتضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسري ذلك من الدولة إلى الأمة فيكون الفساد عاما.
وقد نشأنا في بلاد هذه حال أهلها وحال حكومتهم. يعتقد الجماهير أنه لا سبيل إلى قضاء مصلحة في الحكومة إلا بالشفاعة أو الرشوة، ولا يقوم عندنا دليل على صلاح حكومتنا إلا إذا زال هذا الاعتقاد، وصارت الشفاعة من الوسائل التي لا يلجأ إليها إلا أصحاب الحق بعد طلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، وظهور الحاجة إلى شفيع يظهر للحاكم العادل ما لم يكن يعلمه من استحقاق المشفوع له لكذا، أو وقوع الظلم عليه في كذا، وأن يكون ما عدا هذا من النوادر التي لا تخلو حكومة منها، مهما ارتقت وصلح حالها.
{وكان الله على كل شيء مقيتا}... وحاصل معنى الجملة وكان الله ومازال على كل شيء مقيتا أي مقتدرا مقدرا فهو لا يعجزه أن يعطي الشافع نصيبا أو كفلا من شفاعته على قدرها في النفع والضر لأن سننه الحكيمة مضت بأن يكون هذا الجزاء مرتبطا بالعمل، أو شهيدا حفيظا على الشفعاء لا يخفى عليه أمر محسنهم ومسيئهم فهو يعطي الجزاء على قدر العمل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلًّا ما يستحقه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة تحريض الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة -وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وكان الله على كل شيء مقيتًا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله: {لا تُكَلَّفُ إلاّ نَفْسَك وحرّض المؤمنين} [النساء: 84] وهو بشارة للرسول عليه الصلاة والسلام بأن جهاد المجاهدين بدعْوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر، فإنّ تحريضه إيّاهم وساطة بهم في خيرات عظيمة، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العامّ على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد. ويعلم من عمومها أنّ التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة، وأنّ سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيّئة، فجاءت هذه الآية إيذاناً للفريقين بحالتهما. والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسّط في الخير والترهيب من ضدّه.
والشفاعة: الوساطة في إيصال خير أو دفع شرّ، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا، وتقدّمت في قوله تعالى: {ولا يُقبل منها شفاعة} في سورة البقرة (48)، وفي الحديث "اشفعوا فلْتؤجروا". ووصفُها بالحسنة وصف كاشف؛ لأنّ الشفاعة لا تطلق إلاّ على الوساطة في الخير، وأمّا إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شرّ فهو مشاكلة، وقرينتها وصفها بسيّئة، إذ لا يقال (شفع) للذي سعى بجلب سوء.
والنصيب: الحظّ من كلّ شيء: خيراً كان أو شراً، وتقدّم في قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا} في سورة البقرة (202).
والكِفل بكسر الكاف وسكون الفاء الحَظْ كذلك، ولم يتبيّن لي وجه اشتقاقه بوضوح. ويستعْمل الكفل بمعنى المِثل، فيؤخذ من التفسيرين أنّ الكفل هو الحظّ المماثل لِحظّ آخر، وقال صاحب « اللسان»: لا يقال هذا كفل فلان حتّى يكون قدْ هيّئ لغيره مثله، ولم يعزُ هذا، ونسبه الفخر إلى ابن المظفّر، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت، ولعلّه لا يساعد عليه الاستعمال. وقد قال الله تعالى: {يُؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28]. وهل يحتجّ بما قاله ابن المظفّر وابن المظفّر هو محمد بن الحسن بن المظفّر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي. وفي مفردات الراغب أنّ الكفل هو الحظّ من الشرّ والشدّة، وأنّه مستعار من الكِفل وهو الشيء الرديء، فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنّه نصيب إيماء إلى أنّه قد يكون له أجرٌ أكثر من ثواب من شفع عنده.
وجملة {وكان الله على كلَ شيء مقيتاً} تذييل لجملة {من يشفع شفاعة حسنة} الآية، لإفادة أنّ الله يجازي على كلّ عمل بما يناسبه من حُسْن أو سوء.
و {المقيت} الحافظ، والرقيب، والشاهد، والمقتدر. وأصله عند أبي عبيدة الحافظ. وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القُوت، فوزنه مُفعِل وعينه واو. واستعمل مجازاً في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم، لأنّ من يقيت أحداً فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك، وهو هنا مستعمل في معنى الإطلاع، أو مضمّن معناه، كما ينبيء عنه تعديته بحرف (على). ومن أسماء الله تعالى المُقيت، وفسّره الغزالي بمُوصل الأقوات. فيؤول إلى معنى الرازق، إلاّ أنّه أخصّ، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه، وعليه يدلّ قوله تعالى: {وكان الله على كلّ شيء مقيتاً} فيكون راجعاً إلى القدرة والعلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
عواقب التّحريض على الخير أو الشرّ: لقد أشير في الآية السابقة إِلى أنّ كل إِنسان مسؤول عن عمله وعمّا هو مكلّف بأدائه، ولا يُسأل أي إِنسان عن أفعال الآخرين. أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطئ للآية السابقة، فبيّنت أنّ الإِنسان إِذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيباً من ذلك الخير أو الشر: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها...)...