محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا85 ) .

( من يشفع شفاعة حسنة ) أي يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر ، أو جلب نفع ، ابتغاء لوجه الله تعالى . ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار ( يكن له نصيب منها ) وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها ( ومن يشفع شفاعة سيئة ) وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، بأن كانت في أمر غير مشروع ( يكن له كفل منها ) أي : نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه ، مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء .

فوائد

الأولى : قال السيوطي في ( الاكليل ) : في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية . وهي الشفاعة السيئة ، وذكر الناس عند السلطان بالسوء . وهي معدودة من الكبائر .

الثانية : روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة . منها ما أخرجه الشيخان{[2018]} عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب " . وعن ابن عباس{[2019]} رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها قال : " قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لو راجعته ! قالت : يا رسول الله ! تأمرني ؟ قال : إنما أنا أشفع . قالت : لا حاجة لي فيه " . رواه البخاري .

الثالثة : قال مجاهد والحسن والكلبي وابن زيد : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض . فما يجوز في الدين أن يشفع فيه ، فهو شفاعة حسنة . وما لا يجوز أن يشفع فيه ، فهو شفاعة سيئة . ثم قال الحسن : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر ، وان لم يشفع . لأن الله تعالى يقول : ( من يشفع ) . ولم يقل : من يشفّع . ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام{[2020]} : " اشفعوا تؤجروا " . نقله الرازي .

الرابعة : قال الزمخشري : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حد من حدود الله ، ولا في حق من الحقوق . يعني الواجبة عليه . والسيئة ما كان بخلاف ذلك . وعن مسروق : أنه شفع شفاعة . فأهدى إليه المشفوع جارية . فغضب وردها . وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك . ولا أتكلم فيما بقي منها . انتهى .

/ وروى أبو داود{[2021]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثم شفع لأخيه بشفاعة ، فأهدى له هدية عليها ، فقبلها ، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر " . وهذا الحديث أورده أيضا المنذري في ( كتاب الترغيب والترهيب ) في ترجمة ( الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم ، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه ) ثم ساق حديث الشيخين{[2022]} وغيرهما عن أبن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم أخو المسلم . لا يظلمه ولا يسلمه . ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته . ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كرب الدنيا يوم القيامة . ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " . وروى الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم ، فقد عرض تلك النعمة للزوال " . وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عمرو . وروى الطبراني وابن حبان في ( صحيحه ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو تيسير عسير ، أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام " . وفي رواية للطبراني عن أبي الدرداء : " رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة " . وروى الطبراني عن الحسن بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ان من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم " . ورواه عن عمر مرفوعا بلفظ : " أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن " . ورواه بنحو ذلك أيضا عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم . انظر الترغيب .

/ الخامسة : نكتة اختيار النصيب في ( الحسنة ) والكفل في ( السيئة ) ما أشرنا إليه . وذلك أن النصيب يشمل الزيادة . لأن جزاء الحسنات يضاعف . وأما الكفل فأصله المركب الصعب . ثم استعير للمثل المساوي . فلذا اختير ، إشارة إلى لطفه بعباده . إذا لم يضاعف السيئات كالحسنات . ويقال : انه وان كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره . كقوله تعالى : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) {[2023]} فلذا خص به السيئة تطرية وهربا من التكرار . و ( من ) بيانية أو ابتدائية . أفاده الخفاجي ( وكان الله على كل شيء مقيتا ) أي : مقتدرا . من ( أقات على الشيء ) إذا اقتدر عليه كما قال{[2024]} :

وذي ضغن كففت النفس عنه *** وكنت على مساءته مقيتا

أي رب ذي حقد علي كففت السوء عنه مع القدرة عليه . أو شهيدا حافظا . واشتقاقه من ( القوت ) فإنه يقوي البدن ويحفظه .


[2018]:أخرجه موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذا جاءه سائل، أو طلبت اليه حاجة قال: "اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء".
[2019]:أخرجه البخاري في: 68 –كتاب الطلاق، 16 –باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، حديث 2154. ونصه: عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث. كأني أنظر اليه يطوف خلفها يبكي. ودموعه تسيل على لحيته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: "يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا؟". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته!" قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: "انما أنا أشفع". قالت: لا حاجة لي فيه.
[2020]:أخرجه البخاري في: 24 –كتاب الزكاة، 21 –باب التحريض على الصداقة والشفاعة فيها، حديث 765 ونصه: عن أبي موسى رضي الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذا جاءه السائل، أو طلبت اليه حاجة، قال: "اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء".
[2021]:أخرجه أبو داود في: 22 –كتاب البيوع، 82 –باب الهدية لقضاء الحاجة، حديث 3541، عن أبي أمامة.
[2022]:أخرجه البخاري في: 46 –كتاب المظالم، 3 –باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث 1202.
[2023]:|57/ الحديد/ 28| ونصها: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم28).
[2024]:البيت استشهد به الطبري في (ج 8 ص 584)، والطبرسي في (ج 3 ص 84)، ومقاييس اللغة وفيه: على اساءته، و الزمخشري (ج 1 ص 378) ونصه فيه: وذي ضغن نفيت السوء عنه وكنت على اساءته مقيتا وجاء في اللسان حسب رواية الكتاب. ولكن قال في الحاشية ما يأتي: قوله: (على مساءته مقيتا) تبع الجوهري. وقال في التكملة: الرواية (أقيت) قال: والقافية مضمونة وبعده: يبيت الليل مرتفقا ثقيلا على فرش القناة وما أبيت تعن الي منه مؤذيات كما تبري الجذامير البروت والبروت جمع برت، فاعل تبري كترمي. والجذامير مفعوله على حسب ضبطه. اه. والبرت: الفأس (يمانية) والجذمور: بقية كل شيء مقطوع، عن ابن الأعرابي. وجاء في حماسة ابن الشجري ص 25: وقائله هو أبو قيس ابن رفاعة ونصه فيها: وذي ضغن نفيت السوء عنه وكنت على اساءته مقيتا وكذا في طبقات الشعراء للجمحي ص 243 وفيها: وكنت، على مساءته مقيت. وانظر تعليق السيد محمود محمد شاكر على هذا البيت.