تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون . كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ]{[14055]} ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت سعد{[14056]} الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء .

وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره .

وهذا غريب .

{ يُدَبِّرُ الأمْرَ } أي : يدبر أمر الخلائق ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلّظه{[14057]} المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين{[14058]} ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] . { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] {[14059]} .

وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ]{[14060]} أنه قال حين نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } لقيهم ركب عظيم{[14061]} [ لا يرون إلا أنهم ]{[14062]} من العرب ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا . من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .

[ وقوله ]{[14063]} { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } كقوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] .

وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14064]} أي : أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14065]} أي : أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 86 - 87 ] {[14066]} ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها .


[14055]:- زيادة من أ.
[14056]:- في ت : "سعدا".
[14057]:- في ت ، أ : "ولا يغلطه".
[14058]:- في ت : "+بالألجاج الملجين".
[14059]:- في ت : "يسقط".
[14060]:- زيادة من ت ، أ.
[14061]:- في ت : "لقي - ثم بياض - ركبا عظيما".
[14062]:- زيادة من ت.
[14063]:- زيادة من ت ، أ.
[14064]:- في ت : "يتذكرون".
[14065]:- في ت : "يتذكرون".
[14066]:- في ت : "الله".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } التي هي أصول الممكنات . { في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر } يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه ، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة . { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له { ذلكم الله } أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية . { ربكم } لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك . { فاعبدوه } وحدوه بالعبادة . { أفلا تذكّرون } تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وإعلام بصفاته ، والخطاب بها لجميع الناس ، و { خلق السماوات والأرض } هو على ما تقرر أن الله عز وجل خلق الأرض { ثم استوى } إلى السماء وهي دخان فخلقها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقوله { في ستة أيام } قيل هي من أيام الآخرة ، وقال الجمهور ، وهو الصواب : بل من أيام الدنيا .

قال القاضي أبو محمد : وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الله المخلوقات ( إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا ) إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة ، والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد ، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت{[6008]} وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مما لا يوصل إلى تعليله ، وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك ، والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدراً وهو أعلم بوجه الحكمة . وقوله { ثم استوى على العرش } قد تقدم القول فيه في { المص } [ الأعراف : 1 ] وقوله { يدبر الأمر } يصح أن يريد ب { الأمر } اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد { الأمر } الذي هو مصدر أمر يأمر ، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علماً ، وقال مجاهد : { يدبر الأمر } معناه يقضيه وحده ، وقوله { ما من شفيع الا من بعد إذنه } رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها{[6009]} ، وقوله { ذلكم } إشارة الى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه ، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال { أفلا تذكرون } أي فيكون التذكر سبباً للاهتداء ، واختصار القول في قوله { ثم استوى على العرش } [ إما ] أن يكون { استوى } بقهره وغلبته وإما أن يكون { استوى } بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان ، فقد قيل في قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق*** من غير سيف ودم مهراق

إنه بيت مصنوع . وإما أن يكون فعل فعلاً في العرش سماه { استوى } واستيعاب القول قد تقدم{[6010]} .


[6008]:- عبارة ابن عطية هنا تدل على أنه يشك في صحة هذه الرواية، بدليل قوله: "ووقع في بعض الأحاديث"، والحقيقة المشهورة عند العلماء أن الله بدأ الخلق يوم الأحد، وأن مدة الخلق كانت ستة أيام بنص القرآن الكريم. ومعنى ذلك أن هذه الرواية تتعارض مع الآية فلا بد من إسقاطها أو تأويلها، ولا يمنع من ذلك ورودها في صحيح مسلم غفر الله لنا وله، وقد تكلم كثير من الحفاظ في هذا الحديث. والله أعلم.
[6009]:- قال بعض العلماء: فماذا إذا ادّعوا الإذن لها وقالوا: إنها تشفع بعد أن يؤذن لها، والآية لا تنفي الإذن؟ يقال: ولن يأذن لها لأنها ليست أهلا للشفاعة.
[6010]:- في الآية (54) من سورة (الأعراف). واللغويون لهم آراء كثيرة في معنى (استوى) أشهرها أنه بمعنى: استولى وظهر، وقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى؟ فقال: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"