تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يقول : لا تقل .

وقال العوفي عنه : لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم .

وقال محمد بن الحَنفية : يعني شهادة الزور .

وقال قتادة : لا تقل : رأيت ، ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم ؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله .

ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وفي الحديث : " إياكم والظن ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث " {[17488]} . وفي سنن أبي داود : " بئس مطيةُ الرجل : زعموا " {[17489]} ، وفي الحديث الآخر : " إن أفرى الفِرَى أن يُرِي{[17490]} عينيه ما لم تريا " {[17491]} . وفي الصحيح : " من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين ، وليس بعاقد{[17492]} {[17493]} .

وقوله : { كُلُّ أُولَئِكَ } أي : هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتُسأل{[17494]} عنه وعما عمل فيها . ويصح استعمال " أولئك " مكان " تلك " ، كما قال الشاعر{[17495]} :

ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى *** وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام


[17488]:رواه البخاري في صحيحه برقم (6066) ومسلم في صحيحه برقم (2563) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[17489]:برقم (4972).
[17490]:في ف، أ: "يرى الرجل".
[17491]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7043) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
[17492]:في ف: "بفاعل".
[17493]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7042) معلقا، ووصله النسائي في السنن (8/215) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[17494]:في ت: "ويسأل".
[17495]:هو جرير بن عطية، والبيت في تفسير الطبري (15/62).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

{ ولا تقفُ } ولا تتبع وقرئ { ولا تقف } من قاف اثره إذا قفاه ومنه القافة . { ما ليس لك به علم } ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب ، واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ، سواء كان قطعا أو ظنا واستعماله بهذا المعنى سائغ شائع . وقيل إنه مخصوص بالعقائد . وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج " . وقول الكميت :

ولا أرمي البريء بغير ذنبٍ *** ولا اقفُو الحواصن أن قفينا

{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك } أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها ، هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله :

والعيش بعد أولئك الأيَام *** . . . . . . . . . . . . . . . . .

{ كان عنه مسئولا } في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه ، يعني عما فعل به صاحبه ، ويجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر { لا تقف } أو لصاحب السمع والبصر . وقيل { مسؤولا } مسند إلى { عنه } كقوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } والمعنى يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم مقامه لا يتقدم ، وفيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية . وقرئ { والفؤاد } بقلب الهمزة واوا بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

وقوله { ولا تقف } معناه ولا تقل ولا تتبع .

قال القاضي أبو محمد : لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا »{[7568]} ، ونقول فلان ِقْفَوتي أي موضع تهمتي ، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي{[7569]} أي ما رميت به ، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه ، وقد قال ابن عباس أيضاً ومجاهد : { ولا تقف } معناه ، ولا ترم ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :

ومثل الدمى شم العرانين ساكن . . . بهن الحياء لا يشعن التقافيا{[7570]}

وقال الكميت : [ الوافر ]

ولا أرم البرى بغير ذنب . . . ولا أقفو الحواضن إن قفينا{[7571]}

وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر ، تقول قفوت الأثر ، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ، وتقول قفت الأثر ، ومن هذا : هو القائف ، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف ، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث ، فمعنى الآية ، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به ، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية ، وقرأ الجمهور «ولا تقف » ، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، وقرأ الجراح «والفآد » بفتح الفاء وهي لغة ، وأنكرها أبو حاتم وغيره{[7572]} ، وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } ب { أولئك } لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها ب { أولئك } ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى :

{ رأيتهم لي ساجدين }{[7573]} إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل ، عبر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك » ، وأنشد هو والطبري : [ الكامل ] .

ذم المنازل بعد منزلة اللوى . . . والعيش بعد أولئك الأيام{[7574]}

فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام ، والضمير في { عنه } يعود على ما ليس للإنسان به علم ، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان ، وبصره ، وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ، ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد ، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده ، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً ، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً ، فهو على حذف مضاف .


[7568]:أخرجه ابن ماجه في الحدود، وأحمد في مسنده (5 – 211، 212)، ولفظه كما في المسند، عن الأشعث بن قيس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقج لا يرون أني أفضلهم، فقلت: يا رسول الله، إنا نزعم أنكم منا، ولا ننتفي من أبينا)، قال: فكان الأشعث يقول: لا أوتي برجل نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد. ومعنى (لا نقفو أمنا): لا نسب أمنا.
[7569]:العذرة: المعذرة، والقفوة: الذئب، يقال: قفوت الرجل إذا قذفته بفجور صريحا، وفي الحديث الشريف: (لا حد إلا في القفو البين). وهذا المثل يقوله الرجل يعتذر من أمر شتم به إلى الناس، ولو سكت لم يعلم به. ويروى هذا المثل: "ري سامع قفوتي ولم يسمع عذرتي"، قال الأصمعي: معناه: سمع ما أكره من أمري، ولم يسمع ما يغسله عني.
[7570]:هذا البيت للنابغة الجعدي، وهو عبد الله بن قيس، أبو ليلى، وقد استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن على أن معنى التقافي: التقاذف. وقد نقل صاحب اللسان عن أبي عبيد أن الأصل في القفو والتقافي: البهتان يرمي به الرجل صاحبه، ويقال: قفا فلان فلانا: أتبعه أمرا كلاما قبيحا، وقال الفراء عن هذه الآية: أكثر القراء يجعلونها من قفوت، والدمى: جمع دمية، وهي التمثال من العاج أو المرمر ونحوهما. والعرانين: جمع عرنين، وهو ما صلب من عظم الأنف، أي القصبة، والشمم في العرانين هو ارتفاعها، وهو من علامات الجمال، يصفهن بالجمال فيشبههن بالدمى، وبجمال الأنوف المرتفعة، والحياء الذي يكسبهن الوقار والكمال، ثم يختم ذلك بأنهن لا يعرفن تتبع الأقاويل، ولا يبحثن عن عيوب الناس وأخبارهم.
[7571]:هذا البيت شاهد أيضا على أن القفو هو تتبع عورات الناس وعيوبهم. ورمى فلان فلانا بأمر قبيح: قذفه به، ومنه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات}، وقوله: {والذين يرمون أزواجهم}، يقول: إنه لا يرمي بريئا ولا يقذفه بأمر قبيح وهو لم يرتكب ذنبا، والحواصن: جمع حاصن من النساء، يقال: حصنت المرأة تحصن حصنا وحصنا إذا عفت عن الريبة، وقيل: الحواصن من النساء: الحبالى: فهو أيضا لا يتهم المحصنات من النساء إذا تتبعهن غيره من الناس، وظاهر من بيت الكميت أنه تأثر كثيرا بالقرآن الكريم، لفظا ومعنى.
[7572]:قال أبو الفتح ابن جني: "لم يذكر أبو حاتم هو ولا ابن مجاهد الهمز ولا تركه، وقد يجوز ترك الهمز مع فتح الفاء، كأنه كان (الفؤاد) بضم الفاء وبالهمز، ثم خففت فخلصت في اللفظ واوا، وفتحت الفاء على ما في ذلك. فبقيت واوا"، ومعنى ذلك أنه يختار مع فتح الفاء ترك الهمز.
[7573]:من الآية (4) من سورة (يوسف).
[7574]:هذا البيت لجرير، قاله من قصيدة يجيب بها الفرزدق، ومطلعها: سرت الهموم فبتن غير نيام وأخو الهمــوم يروم كل مــرام. والشاهد فيه عند الزجاج والطبري هو الإشارة إلى الأيام بأولئك، وابن عطية يقول: إن الرواية هي الأقوام بدلا من الأيام، وعلى هذا فلا شاهد في البيت.