فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( 36 ) }

ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا تتبع ما لا تعلم ، وهو مأخوذ من قولك قفوت إذا اتبعت أثره ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس . وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت : قفى وقاف مثل عثى وعاث .

وقال منذر بن سعيد البلوطي : قفى وقاف مثل جذب وجبذ ، وقيل مجزوم بحذف الواو من بابي عدا وسما ، أي لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم .

ومعنى الآية النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلمه أو يعمل بما لا علم له . وهذه قضية كلية وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور ، فقال ابن عباس : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم . وقيل هي في شهادة الزور ، قاله محمد بن الحنفية وقيل هي في القذف .

وقال القتيبي : معنى الآية لا تتبع الحدس والظنون ، وهذا صواب فإن ما عدا ذلك هو العلم . وقيل المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعيا كان أو ظنيا ، قال أبو السعود في تفسيره : واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه .

وأقول أن هذه الآية دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم ، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك فلا يخرج من عمومها ومن عموم أن الظن لا يغني من الحق شيئا إلا ما قام دليل جواز العمل به .

فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله لمعاذ لما بعثه قاضيا ( بم تقضي ) ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي{[1073]} ، وهو حديث صالح للاحتجاج به ، كما أوضح الشوكاني ذلك في بحث مفرد .

وأما التوثت على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أوليا لأنه محض رأي في شرع الله ، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به ، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزل منزلة مسائل الشرع .

وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء والعامل بها على شفا جرف هار ، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم ، والمقلد المسكين العامل برأي المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده ، ظلمات بعضها فوق بعض وقد قيل أن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلا .

ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } أي القلب { كُلُّ أُولئِكَ } أي كل واحد من الحواس الثلاثة وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها .

وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما لا يعقل وعما يعقل بأولئك والضمير في { كَانَ } يرجع إلى كل وكذا الضمير في : { عَنْهُ } وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله لا تقف وقوله عنه في محل رفع لإسناد { مَسْؤُولاً } إليه ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا .

قيل والأولى أن يقال أنه فاعل مسؤول المحذوف والمذكور مفسر له ومعنى سؤال هذه الجوارح أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني فإن استعملها في الخير استحق الثواب وإن استعملها في الشر استحق العقاب وهو اختيار الزمخشري ، وقيل إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها وعليه جرى القاضي فتسأل توبيخا لأصحابها وهذا أبلغ مما قبله . وفي الآية دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية .


[1073]:الإمام أحمد 5 / 236 - / 242.