التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

ثم ختم - سبحانه - تلك التوجيهات السامية السديدة ، بالنهى عن تتبع ما لا علم للإِنسان به ، وعن الفخر والتكبر والخيلاء . . فقال - تعالى - :

{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } .

قال القرطبى - رحمه الله - ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أى : ولا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك - من قول أو فعل - قال قتادة : لا تقل رأيت وأنت لم تر ، وسمعت وأنت لم تسمع ، وعلمت وأنت لم تعلم . .

ثم قال : وأصل القَفْو البُهْت ، والقذف بالباطل . ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أُمَّنا ، ولا ننتفى من أبينا " أى : لا نسُبُّ أمنا .

وقال : قفوته أقفوه . . . إذا اتبعت أثره . وقافية كل شئ آخره ، ومنه اسم النبى صلى الله عليه وسلم : المُقَفَّى ، لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - ، ومنه القائف ، وهو الذى يتبع الأثر .

. .

وقال صاحب الكشاف - رحمه الله - : قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } : يعنى ، ولا تكن فى اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل ، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال . والمراد : النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم . ويدخل فيه النهى عن التقليد الأعمى دخولا ظاهرا لأنه اتباع لا لما لا يعلم صحته من فساده . . .

وقوله : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } تحذير شديد من أن يقول الإِنسان قولا لا علم له به ، أو أن يفعل فعلا بدون تحقق ، أو أن يحكم حكما بلا بينة أو دليل .

أى : إن السمع الذى تسمع به - أيها المكلف - ، والبصر الذى تبصر به ، والفؤاد - أى القلب - الذى تحيا به ، كل أولئك الأعضاء ستكون مسئولا عن أفعالها يوم القيامة ، وسيقال لك بتأنيب وتوبيخ : لماذا سمعت ما لا يحل لك سماعه ، ونظرت إلى ما لا يجوز لك النظر إليه ، وسعيت إلى ما لا يصح لك أن تسعى إليه ! ! .

وعلى هذا التفسير يكون السؤال فى قوله - تعالى - : { كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } للإنسان الذى تتبع ما ليس له به علم من قول أو فعل .

ومن الآيات التى تشهد لهذا التفسير قوله - تعالى - : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ومنهم من يرى أن السؤال موجه إلى تلك الأعضاء ، لتنطق بما اجترحه صاحبها ، ولتكون شاهدة عليه ، فيكون المعنى : .

إن السمع والبصر والفؤاد ، كل واحد من أولئك الأعضاء ، كان مسئولا عن فعله ، بأن يقال له : هل استعملك صاحبك فيما خلقت من أجله أوْ لا ؟ .

ويكون هذا السؤال للأعضاء من باب التوبيخ لأصحابها ، كما قال - تعالى - : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وكما قال - سبحانه - : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } واسم الإِشارة { أولئك } على التفسير يعود إلى السمع والبصر والفؤاد ، إما لأن هذا الاسم يشار به إلى العقلاء ويشار به إلى غير العقلاء ، كما فى قول الشاعر :

ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللوى . . . والعيش بعد أولئك الأيام

وإما لأن هذه الأعضاء أخذت حكم العقلاء ، لأنها جزء منهم ، وشاهدة عليهم .

وعلى كلا التفسيرين أيضا ، يتمثل التحذير الشديد للإِنسان عن أن يتبع ما ليس له به علم .

قال الجمل : وقوله - تعالى - : { كل أولئك } مبتدأ ، خبره جملة { كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، والضمير فى " كان " وفى " عنه " وفى { مسئولا } يعود على كل .

أى : كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه ، يعنى عما فعل به صاحبه : ويجوز أن يكون الضمير فى : " عنه " لصاحب السمع والبصر والفؤاد . . .

وشبيه بهذه الآية فى النهى عن اتباع ما لا علم للإنسان به . قوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقوله - سبحانه - : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال الإِمام ابن كثير : ومضمون ما ذكروه - فى معنى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } أن الله - تعالى - نهى عن القول بلا علم ، كما قال - سبحانه - : { اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ . . } وفى الحديث : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . . . " وفى سنن أبى داود : " بئس مطية الرجل زعموا " وفى الحديث الآخر : " إن أفْرَى الفِرَى - أى أكذب الكذب - أن يُرِىَ الرجل عينيه ما لم تريا " .

وقال بعض العلماء : وهذه الكلمات القليلة - التى اشتملت عليها الآية - تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمى الذى عرفته البشرية حديثا جدا ، ويضيف إليه استقامة القلب ، ومراقبة الله ، ميزة الإِسلام على المناهج العقلية الجافة ! .

فالتثبت من كل خبر ، ومن كل ظاهرة ، ومن كل حركة ، قبل الحكم عليها ، هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإِسلام الدقيق . .

فلا يقول اللسان كلمة ، ولا ينقل رواية ، ولا يروى حادثة ، ولا يحكم العقل حكما ، ولا يبرم الإِنسان أمرا . إلا وقد تثبت من كل جزئية ، ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة فى صحتها . . .