الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ } : العامَّةُ على هذه القراءةِ ، أي : لا تَتَّبِعْ ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه ، قال النابغة :

ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ *** بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا

وقال الكميت :

فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ *** ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا

وقرأ زيدُ بن عليّ : " ولا تَقْفُو " بإثباتِ الواو ، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ العلةِ جزماً لغةُ قوم ، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ

وقرأ معاذ القارئ " ولا تَقُفْ " بزنةِ تَقُلْ ، مِنْ قاف يَقُوف ، أي : تَتَبَّع أيضاً ، وفيه قولان : أحدُهما : أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو ، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب ، لكثرة الاستعمالين ، ومثله : قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها .

قوله : " والفُؤادَ " قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة . وتوجيهُها : أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد ، يقال : فُؤَاد وفَآد ، وأنكرها أبو حاتمٍ ، أعني القراءةَ ، وهو معذورٌ .

والباء في " به " متعلقةٌ بما تَعَلَّق به " لك " ولا تتعلَّق ب " عِلْم " لأنه مصدر ، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ .

قوله : " أولئك " إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله :

ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى *** والعيشَ بعد أولئك الأيامِ

ف " أولئك " يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع . واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال : " وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد ب " أولئك " لأنها حواسُّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال " رأيتُهم " في نحوم ؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ . وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل ب " أولئك " ، وأنشد هو والطبري :- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى *** والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ

وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده ، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه " الأقوامِ " . ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ . وأمَّا قولُه : إنَّ الروايةَ : " الأقوامِ " فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو " الأيَّام " .

قوله : { كُلُّ أُولئِكَ } مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ " كان " خبرُه ، وفي اسمِ " كان " وجهان ، أحدُهما : أنه عائدٌ على " كل " باعتبارِ لفظِها ، وكذا الضميرُ في " عنه " ، و " عنه " متعلقٌ ب " مَسْؤولاً " ، و " مسؤولاً " خبرُها .

والثاني : أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي ، وفي " عنه " يعودُ على " كل " وهو من الالتفاتِ ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل : كنتَ عنه مسؤولاً . وقال الزمخشريُّ : و " عنه " في موضع الرفع بالفاعلية/ ، أي : كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] . انتهى . وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح .

وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه : بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه ، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه . وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ : يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً ، فليس هو نظيرَ قولِه { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على " كل " أو على القافي .