فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تتبع ما لا تعلم ، من قولك : قفوت فلاناً : إذا اتبعت أثره ، ومنه قافية الشعر ، لأنها تقفو كل بيت ، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة ، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس . وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت : قفا وقاف ، مثل عثا وعاث . قال منذر بن سعيد البلوطي : قفا وقاف ، مثل جذب وجبذ . وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ ( تَقُفْ ) بضم القاف وسكون الفاء .

وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب ، وأنكرها أبو حاتم وغيره . ومعنى الآية : النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم ، أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور : فقيل : لا تذم أحداً بما ليس لك به علم ؛ وقيل : هي في شهادة الزور ؛ وقيل : هي في القذف . وقال القتيبي : معنى الآية : لا تتبع الحدس والظنون ، وهذا صواب ، فإن ما عدا ذلك هو العلم ؛ وقيل : المراد بالعلم هنا : هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً . قال أبو السعود في تفسيره : واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه . وأقول : إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم ، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ كالعمل بالعامّ ، وبخبر الواحد ، والعمل بالشهادة ، والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك ، فلا تخرج من عمومها ومن عموم { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } [ يونس : 36 ] . إلاّ ما قام دليل جواز العمل به ، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنّة ، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضياً : ( بم تقضي ؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : فبسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي ) . وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد . وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة ، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أوّلياً ، لأنه محض رأي في شرع الله ، وبالناس عنه غنىً بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به ، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به ، وينزله منزلة مسائل الشرع ، وبهذا يتضح لك أتمّ اتضاح ، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء ، والعامل بها على شفا جرف هار ، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم ، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده { ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [ النور : 40 ] . وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً . ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْؤُولاً } إشارة إلى الأعضاء الثلاثة ، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها . وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب : أولئك ، وأنشد ابن جرير مستدلاً على جواز هذا قول الشاعر :

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام ، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف . والضمير في { كان } من قوله : { كَانَ عَنْهُ مَّسْؤولاً } يرجع إلى " كل " ، وكذا الضمير في " عنه " ، وقيل : الضمير في { كان } يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله : { وَلاَ تَقف } . وقوله : «عنه » في محل رفع لإسناد { مسؤولاً } إليه ، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جاراً أو مجروراً . قيل : والأولى أن يقال : إنه فاعل { مسؤولاً } المحذوف ، والمذكور مفسر له . ومعنى سؤال هذه الجوارح : أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات ، والمستعمل لها : هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخير استحق الثواب ، وإن استعملها في الشرّ استحق العقاب ؛ وقيل : إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها .

/خ41