جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

القول في تأويل قوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال بعضهم : معناه : ولا تقل ما ليس لك به علم . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يقول : لا تقل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم .

حُدثت عن محمد بن ربيعة ، عن إسماعيل الأزرق ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنفية قال : شهادة الزور .

وقال آخرون : بل معناه : ولا ترم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يقول : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تَقْفُ ولا ترمِ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور ، ورمى الناس بالباطل ، وادّعاء سماع ما لم يسمعه ، ورؤية ما لم يره . وأصل القفو : العضه والبهت . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ بَنُو النّضْرِ بْنِ كِنانَة لا نَقْفُو أمّنا وَلا نَنْتَفِي مِنُ أبِينا » ، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا :

وَمِثْلُ الدّمَى شُمّ العَرَانِينِ ساكِنٌ *** بِهِنّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التّقافِيا

يعني بالتقافي : التقاذف . ويزعم أن معنى قوله لا تَقْفُ لا تتبع ما لا تعلم ، ولا يعنيك . وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة ، يزعم أن أصله القيافة ، وهي اتباع الأثر وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة : «وَلا تَقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، مثل : ولا تقل . قال : والعرب تقول : قفوت أثره ، وقُفت أثره ، فتقدّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها ، كما قيل : قاع الجمل الناقة : إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وعَثَى وأنشد سماعا من العرب .

ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ *** لَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ

يعني عائق ، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به ، فترميهم بالباطل ، وتشهد عليهم بغير الحقّ ، فذلك هو القفو .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه .

وأما قوله إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً فإن معناه : إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها ، من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ ، وقال «أولئك » ، ولم يقل «تلك » ، كما قال الشاعر :

ذُمّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللّوَى *** والعَيْشَ بَعْدِ أُولَئِكَ الأيّامِ

وإنما قيل : أولئك ، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث ، وهذه وتلك للجمع الكثير فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث . لك التذكير للجمع الأوّل ، والتأنيث للجمع الثاني ، وهو الجمع الكثير ، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء .