تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى ، عليه السلام ، حين استسقاني لكم ، وتيسيري لكم الماء ، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم ، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ، فكلوا من المن والسلوى ، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد ، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك . { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها . وقد بسطه المفسرون في كلامهم ، كما قال ابن عباس : وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى ، عليه السلام ، فضربه بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، في كل ناحية منه ثلاث{[1879]} عيون ، وأعلم كل سبط عينهم ، يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم{[1880]} بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول .

وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وهو حديث الفتون الطويل{[1881]} .

وقال عطية العوفي : وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور ، فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، فإذا ساروا حملوه على ثور ، فاستمسك الماء .

وقال عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه : كان لبني إسرائيل حجر ، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا .

وقال قتادة : كان حجرًا طوريًا ، من الطور ، يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه .

[ وقال الزمخشري : وقيل : كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع ، وقيل : مثل رأس الإنسان ، وقيل : كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى . وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار ، قال : وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ، حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا ، وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ، فقال له جبريل : ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه ، قال : وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس ، فقالوا : إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا ، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون ]{[1882]} .

وقال يحيى بن النضر : قلت لجويبر : كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال : كان موسى يضع الحجر ، ويقوم من كل سبط رجل ، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فينضح من كل عين على رجل ، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين .

وقال الضحاك : قال ابن عباس : لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا .

وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه{[1883]} اثنتا عشرة عينًا من ماء ، لكل سِبْط منهم عين يشربون منها .

وقال مجاهد نحو قول ابن عباس .

وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف ، ولكن تلك مكية ، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب ؛ لأن الله تعالى يقص ذلك{[1884]} على رسوله صلى الله عليه وسلم عما فعل بهم . وأما في هذه السورة ، وهي البقرة فهي{[1885]} مدنية ؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم . وأخبر هناك بقوله : { فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [ الأعراف : 160 ] وهو أول الانفجار ، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر{[1886]} آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار{[1887]} هاهنا ، وذاك هناك ، والله أعلم .

وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها بما عنده ، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه .


[1879]:في جـ: "ثلاثة".
[1880]:في جـ: "ذلك منهم".
[1881]:سيأتي بطوله في تفسير سورة طه.
[1882]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1883]:في جـ: "منه".
[1884]:في جـ: "نص هنالك".
[1885]:في و: "فإنها".
[1886]:في جـ، و: "الحال".
[1887]:في جـ: "ذكر هذا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

{ وإذ استسقى موسى لقومه } لما عطشوا في التيه .

{ فقلنا اضرب بعصاك الحجر } اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرا طوريا حمله معه ، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، تسيل كل عين في جدول إلى سبط ، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، أو حجرا أهبطه آدم من الجنة ، ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه لموسى مع العصا ، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة ، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله ، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة . قيل لم يأمره بأن يضرب حجرا بعينه ، ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها ؟ حمل حجرا في مخلاته ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس ، فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون . وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعا في ذراع ، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة .

{ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت ، أو فضرب فانفجرت ، كما مر في قوله تعالى : { فتاب عليكم } وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه .

{ قد علم كل أناس } كل سبط . { مشربهم } عينهم التي يشربون منها . { كلوا واشربوا } على تقدير القول :

{ من رزق الله } يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون . وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به . { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } لا تعتدوا حال إفسادكم ، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد ، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة ، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا ، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه ، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك .