الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

" وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ": وإذ استسقانا موسى لقومه: أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسؤول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك. وكذلك قوله: "فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا "مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فضربه فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه. وكذلك قوله: "قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ" إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم، فترك ذكر (منهم) لدلالة الكلام عليه. وقد دللنا فيما مضى على أن الناس جمع لا واحد له من لفظه، وأن الإنسان لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. وقوم موسى هم بنو إسرائيل الذين قصّ الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه.

" قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ": فإنما أخبر الله عنهم بذلك، لأن معناهم في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: "كلوا واشربوا من رزق الله"؛ أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور الذي لا قرار له في الأرض ولا سبيل إليه لمالكيه يتدفق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإِكرام، ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا والعثا فيها استكبارا فقال جل ثناؤه لهم: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين".

{ولا تعثوا في الأرض مفسدين}: يعني بقوله لا تعثوا: لا تطغوا ولا تسعوا في الأرض مفسدين... وأصل العثا: شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد، يقال منه عثى فلان في الأرض إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{فَقُلْنَا اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَا}... والانفجارُ: الانشقاق، والانبجاسُ أضيق منه، لأنه يكون انبجاساً ثم يصير انفجاراً. والعين من الأسماء المشتركة: فالعين من الماء مُشَبَّهَةٌ بالعين من الحيوان، لخروج الماء منها، كخروج الدمع من عين الحيوان. فأمر موسى عند استسقائه، أن يضرب بعصاه حجراً... فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً...

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} يعني أن لكلِّ سبطٍ منهم عيناً، قد عرفها لا يشرب من غيرها، فإذا ارتحلوا انقطع ماؤه...

{وَلاَ تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ} فيه تأويلان:

أحدهما: معناه لا تطغوا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... عطشوا في التيه، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له: {اضرب بّعَصَاكَ الحجر} واللام... للجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة...

والعثيّ: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر، وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به، فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد، فأنَّى نسقى، لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) الحديث...

[و] سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى... والخطبة والصلاة، وبهذا قال جمهور العلماء

قلت: ما أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم. روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتَوْرٍ، فأدخل يده فيه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول: (حي على الطهور) قال الأعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.

قوله تعالى:"كلوا واشربوا من رزق الله" في الكلام حذف تقديره، وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا بيان لحال آخر من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم وعناية الله تعالى بهم فيها. أصابهم الظمأ فعادوا على موسى باللائمة أن أخرجهم من أرض مصر الخصبة المتدفقة بالأمواه، وكانوا عند كل ضيق يمنون عليه أن خرجوا معه من مصر ويجهرون بالندم. فاستغاث موسى بربه واستسقاه لقومه كما قصه الله تعالى علينا بقوله {وإذ استسقى موسى لقومه} أي طلب السقيا لهم من الله تعالى {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} قال الأستاذ الإمام: أمره أن يضرب بعصاه حجرا من حجارة تلك الصحراء بتلك العصا التي ضرب بها البحر فضربه {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} بعدد أسباطهم وذلك قوله عز وجل {قد علم كل أناس مشربهم}.

(قال) وكون هذا الحجر هو الذي روي أنه تدحرج بثوب موسى يوم كان يغتسل كما قال المفسر (الجلال) لا دليل عليه، وقصة الثوب ليست في القرآن فيحمل تعريف الحجر على أنه المعهود في القصة، وإنما يفهم التعريف أن الحجر الذي ضرب فتفجرت منه المياه حجر مخصوص له صفات تميزه عندهم ككونه صلبا أو عظيما تتسع مساحته لتلك العيون ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم [أو كونه يقع تحت أعينهم منفردا عن غيره ليس في محلتهم سواه، وقد يكون التعريف للدلالة على الجنس ليفيدنا بُعد المرغوب عن التناول، وعظمة القدرة الإلهية وأثرها الجليل في تقريبه وتحصيله] ...

... ولو علم الله تعالى أن لنا فائدة في أكثر مما دل عليه هذا الخطاب من التعيين لما تركه.

ثم أراد أن يصور حال بني إسرائيل في هذه النعمة واغتباطهم بما منحهم من العيش الرغد في مهاجرهم فقال {كلوا واشربوا من رزق الله} فعبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر سامع الخطاب أولئك القوم في ذهنه ويتصور اغتباطهم بما هم فيه حتى كأنهم حاضرون والآن والخطاب يوجه إليهم. وهذا ضرب من ضروب إيجاز القرآن التي لا تجارى ولا تمارى ثم قال {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي لا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا في الشرور قدوة سيئة للناس. يقال عثا إذا نشر الشر والفساد وأثار الخبث فهو أخص من مطلق الإفساد ولذلك مع كون "مفسدين "حالا من ضمير "تعثوا".

قال الأستاذ الإمام: إن كثيرا من أعداء القرآن يأخذون عليه عدم الترتيب في القصص ويقولون هنا إن الاستسقاء وضرب الحجر كان قبل التيه وقبل الأمر بدخول تلك القرية فذكرها هنا بعد تلك الوقائع. والجواب عن هذه الشبهة يفهم مما قلناه مرارا في قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن. وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها وإنما المراد بها الاعتبار والعظة ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها. وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها. ومتى كان هذا هو الغرض من السياق فالواجب أن يكون ترتيب الوقائع في الذكر على الوجه الذي يكون أبلغ في التذكير وأدعى إلى التأثير.

إن الباحثين في التاريخ لهذا العهد قد رجعوا إلى هذا الأسلوب في التقديم والتأخير وقالوا ستأتي أيام يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الحاضرين. وقالوا إن الطريق إلى ذلك هو أن ننظر في كل حادثة من حوادث الكون كالثورات والحروب وغيرها ونبين أسبابها ونتائجها من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتاريخ، فإن ترتيب الوقائع هو من الزينة في وضع التأليف فلا يتوقف عليه الاعتبار، بل ربما يصد عنه بما يكلف الذهن من ملاحظته وحظه – هذا ضرب من ضروب الإصلاح العلمي جاء به القرآن وأيده سير الاجتماع في الإنسان.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانا وأقواهم يقينا، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق، ويذعنون له، ويطمئنون إليه. وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات، ولكنهم قوم معاندون، مناقضون الحس.

شكوا إلى موسى أنهم لا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه}.

وإذ – كما ذكرنا – دالة على الوقت، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يتزاحم على الماء، فينال الماء القوي، ويضيع الضعيف، واستسقى؛ السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة، في ذاته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى.. فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطر، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا، ولا علينا) 146.

ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر، ولكن قال له ربه: {اضرب بعصاك الحجر} والعصا هي آية الله تعالى، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى، والتي بها ضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ضرب بها الحجر، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر، كما تقول ادخل السوق، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق، ضرب موسى عليه السلام الحجر {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} انفجرت: انشقت، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم، فماء العيون لا يكون من السماء كالمطر، ولكن يكون من الأرض، أو الحجر، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة:

الأولى: ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.

والثانية: أن الضرب في الحجر الذي لا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.

الثالثة كون الماء يخرج اثنتا عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و {قد علم كل أناس مشربهم} أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتا عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.

وإن هذا التوزيع بينهم لا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.

وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام؛ ولذا قال تعالى: {كلوا واشربوا} أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض في الأرض غير مقطوعة، ولا ممنوعة.

وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)} العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى: {مفسدين} ليس تكرارا للفظ لا تعثوا أو تأكيدا، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.